مظاهر الاغتراب في مسرح محمد سلماوي " دراسة في سوسيولوجيا المسرح

نوع المستند : مقالات علمیة محکمة

المؤلف

المدرس بقسم الإعلام کلية التربية النوعية جامعة الزقازيق

الموضوعات الرئيسية


مقدمه :-

تُعتبر ظاهرة الإغتراب ظاهرة واضحة في العصر الحديث ، ذلک العصر الذي يعکس کوارث وأزمات سياسية وإجتماعية وفکرية وأخلاقية وإقتصادية وثقافية وفنية ، ولذلک فقد غلبت على هذا العصر النزعة المرضية النفسية والعضوية في شتى المجالات الحياتية مما جعل القلق والمرض والخوف يسيطر على مصير الإنسان .

لذا فإن الأدب فى هذا العالم لا يثير فينا الإستقرار والإحساس بالأمن وإنما يثير فينا القلق والتشاؤم ، لأنه أدب لا ينتمي إلى عالم سوى وإنما أدب ينتمي إلى عالم يسود فيه الشک والقلق والإضطرابات النفسية .

واستخدام مصطلح الإغتراب عائد إلى المنطلق الذي تتحدد به زاوية النظر إلى هذا المصطلح ، فهو من وجهة نظر دينية يظهر في أن الأديان الثلاثة الکبرى : اليهودية والمسيحية والإسلام تلتقي على مفهوم أساس واحد للإغتراب بمعنى الإنفصال ، إنفصال الإنسان عن الله ، وإنفصال الإنسان عن الطبيعة والملذات والشهوات ، وإنفصال الإنسان المؤمن عن الإنسان غير المؤمن ، وأن المفهوم الدينى للإغتراب عن الأخر وعن الطبيعة ينطوى على أن الإغتراب ظاهرة حتمية في الوجود الإنسانى وحياة الإنسان على الأرض ما هى إلا غربه عن وطنه الأسمى ، وطنه السماوى "   ( 1 )

" أما المنطلق النفسى والإجتماعي في تحديد مفهوم الإغتراب فقد کان يدور في إطار العزلة واللا جدوى وإنعدام المغزى الذي يشکل نمطاً من التجربة يعيش الإنسان فيه کشيء غريب ، ويصبح غريباً حتى عن نفسه "   ( 2 )

فالعمل الفني عند کل فنان عبارة عن عملية لا شعورية فکل ما هو مخزون في العقل الباطن أو اللاشعور ولا يستطيع الظهور إلا عندما يتعرض الشخص إلي شحنة من الانفعالات الصعبة وتؤدي إلي ظهور کل ما هو مخزون في هذا العقل من خلال صور ورموز تنفس عن رغبات يريد أن يتخلص منها هذا الشخص وتتحول الصور والرموز إلي علاقات فنية يجد فيها الفنان المتعة في الوصول إلي الحلول المناسبة للمشکلات التي تواجهه .

فالنفس البشرية تتميز بالأفکار التي تنبع من اللاشعور والتي تُعبر عن مکنونات هذه النفس ونزعتها الفطرية وذکرياتها الطفولية ونزواتها المکبوتة في اللاشعور .

" فاللاشعور يمثل النزعات الحيوانية والميول الفطرية ، مثل غريزة الاعتداء وحب المقاتلة وسفک الدماء والقسوة والتعذيب والانتقام والميول الجنسية وهذا المستودع الکبير يندفع نحو رغباته وفقاُ لمبدأ جلب اللذة وإبعاد الألم وهو في تصرفاته لا يمنطق الأمور بمنطقها السليم ولا يقيم وزناً للقيم الأخلاقية ولا يعطي اعتبارا ً للفروق والدين والتقاليد إذ أن حيوياته لا تنسجم مع حقائق الواقع والحياة الاجتماعية " ( 3 )

" وبعد ظهور الاکتشافات العلمية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين أدي ذلک إلي تعقيد الحياة واکتشافات لا حصر لها وخاصة في مجال علم النفس ، ومن أهم الاکتشافات في علم النفس ما توصلت إليه " هند قواس " وقالت عنه :

" إن لکل فرد منا رغبات ونزعات فطرية بدائية وعواطف جياشة قوية يريد أن يحققها کلها في الواقع ، لکن هل يسمح له المجتمع بأن يحققها فعلا ً ؟ بالطبع لا  ، لأنها ستکون شاذة ، ومن ثم يضطر إلي کبتها في نفسه وينساها لمضي الزمن فيتکون بذلک اللاشعور " ( 4 )

ولعل استخدام الشعر أولا  کان له اثر عظيم في إظهار هذا الصراع الداخلي العميق بين الإنسان ونفسه من التعبير عن المکنونات العميقة المختبئة في داخل الإنسان ، ولهذا وجدنا أن الشعر کان أول ما استخدمه الإنسان يستخدمه في المسرح منذ عهد اليونانيين القدامى ولهذا قال عنه موريه :

" إن استخدام الشعر المعاصر للتعبير الدرامي أدي إلي ظهور أساليب جديدة للتعبير عن الحالات النفسية وخلق تداعي للأفکار والعواطف باستخدام الصور الشعرية والأصوات المکررة ، وذلک بالإضافة إلي أي تکنيک يراه الشاعر ملائماً له وهذا بهدف إثارة التداعي الشعوري المطلوب وهذا التکرار السيکولوجي يحاول ارتياد عالم الشاعر الداخلي ، والکشف عن مزاجه النفسي وطبيعة تفکيره ، وخاصة في المناجاة وفي اللحظات التراجيدية التي يبلغ التوتر العاطفي فيها درجة عالية ، تصل أحياناً إلي حافة الهذيان " ( 5 )

ولهذا إهتم المسرح بعلم النفس ، فعلم النفس يختص بدراسة سلوک الفرد ککائن متميز عن غيره من الکائنات الحية الأخرى . فهو کائن متکامل يتشکل سلوکه من خلال عوامل عدة ، منها العامل الوراثي والذي ينقل صفات معينة من الآباء والأجداد إلي ذلک الفرد وأيضاً نجد العوامل التاريخية والتي تبحث في نفس هذا الفرد من خلال ماضيه وحاضره وأيضاً نجد عوامل البيئة التي تحيط به بکل ما بها من عقبات وتسهيلات ، ونجد أيضاً العوامل الفسيولوجية والتي تُعتبر من أهم العوامل علي الإطلاق ، لأنها ترتبط بوظائف الأعضاء المختلفة داخل هذا الفرد والتي تعکس سلوک هذا الفرد من خلال عمل هذه الأعضاء سواء کان ذلک سلوکاً مرضياً أو غير مرضي .

ومع تقدم الإنسان في شتي المجالات وتعقد الحياة بصورة رهيبة وجدنا أن الإنسان في هذا العصر الحديث وهو عصر التکنولوجيا أصبح منفصلاً تماماً عن الحياة الواقعية ، هذا الانفصال أصبح انفصالاً حاداً لم يسبق له مثيل ، سواء کان انفصالاً عن الطبيعة أو المجتمع أو الدولة أو الله عز وجل أو حتي نفسه أو أفعاله .........وغير ذلک من الانفصالات المرضية التي وُجدت في هذا العالم الصعب .

ويؤکد ذلک محمود رجب بقوله " أنه لا سبيل إلي التواصل معه ، فلم يعد قادراً علي إقامة الجسور التي تصل بينه وبين هذا العالم المختلف المظاهر والمتعدد الأسماء ، وأصبح عاجزاً عن تحقيق ذاته  ووجوده علي نحو شرعي وأصيل " . ( 6 )

مما أتاح لهذا الإنسان أن يعيش في اغتراب مع نفسه ومجتمعه ، مما أدي إلي ظهور الأمراض النفسية المدمرة أو المختلفة في صورها والتي تدمر هذا الإنسان ، مما کان له أکبر الأثر في ظهور المسرح لعلاج هذه الحالات الحرجة .

ومن هنا فالعمل المسرحي الذي يعتمد على معالجة الإغتراب يسمح للمشاهد أو المتلقى أن يتعرف على البناء الدرامي للمسرحية وبنفس الوقت بتداوله عملية الإغتراب کأنها مادة مجهولة وکمثال على ذلک أن المسرح اليوناني القديم ومسرح العصور الوسطى جعلوا کثيراً من أعمالهم مجهولة عن المشاهدين من خلال لبس الأقنعة للبشر والحيوانات  .

وعلي الرغم من أن هذه الأعمال التي ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي  ، إلا أنه لم يُطلق علي هذا العصر عصر التعقيد ولکن أطلق هذا الإسم علي القرن العشرين الميلادي  ، هذا القرن الذي حمل الدمار والخراب إلي العالم أجمع من خلال الحروب المدمرة والمعقدة ، والتعقيد في هذا القرن ليس تعقيداً نفسياً وحسب بل هو تعقيد في کل شئ تعقيداً اجتماعي وثقافي وسياسي وفني في آنٍ واحد وفي نفس الوقت ، فلقد انهار الإنسان وتدمر تحت ضغوط الحضارة الرهيبة والتقدم المذهل والخانق .

ومن ثم عاني الإنسان في هذا القرن من تقدم الآلة والتکنولوجيا والتي جعلته مهمشاً في کل شئ لأنها حلت محله في کثير من الأعمال ، لهذا وجدنا انتشاراً سريعاً للبطالة في شتي المجالات وعلي جميع الأصعدة ، ووجدنا أيضاً خوفاً من الإنسان علي مصيره وذلک من خلال الحروب المدمرة والأسلحة الفتاکة التي انتشرت في صورة مخيفة ومدمرة کما حدث في الحرب العالمية الثانية من خلال ضرب القوات الأمريکية اليابان وخاصة في مدينتي ( هيروشيما وناجازاکي ) اللتين دمرتا تماماً علي يد سلاح الجو الأمريکي بقنبلة ذرية من أسلحة هذا العصر الفظيع ، ولهذا انتشرت الأمراض النفسية الرهيبة بين البشر من مختلف الأعمار والأجناس .

ويري الباحث أن البعض يعتقد ويؤکد علي أن ارتباط المسرح بعلم النفس هو وليد العشرينيات ، بل أن هذا الارتباط بين المسرح وعلم النفس قد وجد منذ اللحظات الأولي للمسرح فهذا الارتباط من أقدم أنواع الارتباط للمسرح عن غيره من المجالات المختلفة ، وحيث أنه قد بدأ منذ اللحظة الأولي للمسرح اليوناني القديم . وذلک من خلال نظرية التطهير التي تحدث عنها أرسطو والتي تتکشف من خلال عنصري الخوف والشفقة في المسرحيات التراجيدية ، فعملية التطهير هذه تساعد المتفرجين علي أن يخففوا من مشاعرهم الزائدة الحبيسة وأن يحققوا رغبتهم المکبوتة من خلال العقاب الذي يحدث للبطل في النهاية مما يجعل هذا البطل يتطهر من الذنب الذي ارتکبه ، ومن أکثر الأمثلة الشهيرة في مجال المسرح اليوناني هي مسرحية " أوديب ملکا " للکاتب والشاعر المسرحي اليوناني " سوفوکليس " .

ومن ثم نري أن هذا المسرح يبحث داخل کل إنسان منا عن الصعوبات التي تواجهه في حياته اليومية والمعاناة التي يتعرض لها في عمله وداخل أسرته ومع أصدقائه ويحاول أن يضع لها حلا ً ومعالجتها .

 ويؤکد ذلک الدکتور أنيس فهمي اقلاديوس بقوله " أن علم نفس المسرح من حيث الخلق التشکيلي والمعنوي للنماذج البشرية التي يؤديها الممثل فوق خشبة المسرح هي النماذج التي تکابد انحرافاً في النفس أو لوثة في العقل ". (7)

فداخل کل إنسان منا نسب متفاوتة من المرض النفسي تختلف من فرد إلي أخر وذلک حسب الظروف الحياتية المختلفة التي نعيشها وتبعاً للوراثة والتربية والنشأة التي مرت بنا منذ اللحظات الأولي للحياة ، ومن ثم ندرک أن الشخصيات ما هي إلا نماذج بشرية ولکن تعاني من بعض الاضطرابات النفسية التي مرت بحياتهم علي مر العصور المختلفة .

وهذه سمة من سمات المسرح وهي الاهتمام بالمجتمع والإنسان وخاصة في شتي المجالات والمشکلات التي تقابل هذا الإنسان داخل المجتمع الذي يعيش فيه ، فکتاب الدراما يعتبرون أنفسهم مسئولين عن تناول هذه القضايا التي تقع داخل مجتمعاتهم لأنهم أفراد من هذا المجتمع ولهذا فهم يعتبرون أنفسهم ضميراً حياً يعبرون بقلمهم عن أحلام الناس في المجالات المختلفة من الحياة المعقدة التي يعيشون فيها الأن .

مشکلة البحث :-

وتتحدد مشکلة في محاولة الباحث أن يخوض في أعماق النفس البشرية لمعرفة أهم الايجابيات والسلبيات التي يقدمها المسرح في هذا السياق والکشف عن الخلل الذي يصيب الشخصيات المسرحيـــة جــــراء المشکلات والعواقب التي تواجههـم في حياتهـــم ، ومــن هنا تکمن أهمية هذا البحث .

ولهذا تم اختيار الإغتراب في المسرح  موضوعاً لهذا البحث وسوف أقتصر علي نتائج کاتب مسرحي واحد وهو " محمد سلماوي "  في مسرحية"  فوت علينا بکره"  ليکون مثالا ً عمليا ً علي نتائج کتاب البيئة المصرية بکل أفراحها وأحزانها .

المنهج والأدوات :-

تعتبر الدراسات الوصفية هى أنسب المناهج البحثية لدراسة مشکلة الدراسة الحالية وأيضاً سوف يعتمد الباحث على المنهج الإجتماعي والتحليلي للأدب وأيضاً الدراسات السوسيولوجية للمسرح وکل ما يحتاجه الباحث من أدوات  .

أهمية البحث :-

في ضوء ما سبق تکمن أهمية الدراسة في إکتشاف تأثير مظاهر الإغتراب على الأعمال الأدبية والمسرحية على مر العصور بعکس المضمون الفکري والفني لکل عصر .

ومن ثم فالباحث سوف يعتمد على مجموعة من المناهج أهمها المنهج الوصفي والمنهج الإجتماعي للأدب وأيضاً الدراسات السوسيولوجية وکل ما يحتاجه الباحث من أدوات .

يعد " محمد سلماوي"  علما ً بارزا ً في تاريخ الأدب المصري المعاصر ، فهو بمؤلفاته الکثيرة ونمط حياته الفريد قد استطاع أن يقف في مصاف کبار مؤلفي الأدب المسرحي ، وأن يکون ظاهرة يمتد تأثيرها إلي أوساط ثقافية متعددة .

ولقد تشکل وجدان  وأفکار " محمد سلماوي" مبکراً من خلال ثورة 1952 وهو مازال صغير السن في المرحلة الثانوية ، وقد تربي ونشأ علي خطب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الثورية فهو شاهد عيان علي الأحداث المتتالية التي مرت بمصر في هذه المرحلة فقد شهد تأميم قناة السويس وانتصار مصر علي العدوان الثلاثي سنة 1956 م وهزيمة يونيه 1967 م وانتصار أکتوبر 1973 م وما زال النهر يجري ويفيض إلي يومنا هذا .

"محمد سلماوي" يؤمن بمبادئ عبد الناصر الاشتراکية ويدافع عنها لأنه يعتبر هذه المبادئ انجازات للشعب وردت له کرامته فهو مقتنعُ تماما ً بحقوق الفقراء والعمال والفلاحين ويدافع عنهم .

ونري ذلک واضحا ً من خلال الأعمال المسرحية التي کتبها فهذه الأعمال المسرحية تُعتبر من الکثير من القضايا التي تحدث داخل المجتمع المصري ومن هنا نراه يهتم بکل التفاصيل الموجودة داخل هذا البلد ومن خلال ذکائه الحاد نراه يتصدي لمشکلة من المشکلات المستعصية والتي تمثل للناس صداعا ً دائما ً وتعوق نجاحهم وتحبط آمالهم ، فکانت مسرحية " فوت علينا بکره " .

فالکاتب المسرحي يرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالمجتمع الذي يعيش فيه بکل ما به من قضايا وهموم تؤثر عليه ، وهذا ما حدث للکاتب " محمد سلماوي" عندما بدأ يکتب للمسرح ، فلقد ظهر واضحاً مدي تأثير هذا الواقع الاجتماعي علي کتاباته المسرحية .

" فمن المسلمات الأساسية أن المسرح يرتبط بالقضايا الاجتماعية سواء أکانت سياسية أم اقتصادية أم عقائدية ، فالمسرح منذ نشأته في العهد الذهبي للإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد حتي يومنا هذا واحد من أقدم وسائل التعبير التي ارتبطت بقضايا المجتمعات ". ( 8 )

لقد استطاع " محمد سلماوي " أن يتعايش مع الناس وهمومهم ويعبر عنهم ويدافع عن قضياهم ويتبني کل ما يثير مخاوفهم من مشکلات ، فهو کاتب يُعبر عن ضمير الأمة ولا ينام حتي يعرف الحقيقة ويجد لها حلا ً ، فهو إنسان مثقف ذکي يشعر بالمشاکل الصعبة التي تؤرق الناس وتعوق نجاحهم وتحبط آمالهم .

 

ومن ثم کانت مسرحية " فوت علينا بکره " هذه المسرحية التي تصدي فيها لواحدة من أبشع المشکلات الإدارية في بلدنا مصر هذه المسرحية التي تصدت لعجز الإدارة وفسادها وتخلفها فکل المؤسسات داخل وطننا مصر يعاني من هذا الفساد العقيم ، الموظفون يتلکؤن في تسيير الأمور وتعطيل مصالح الناس بحجة تطبيق القانون ويتلفظون بعباراتهم المشهورة " فوت علينا بکره يا سيد " .

ومن هنا نجد أن الکاتب " محمد سلماوي " بذکائه الحاد يلتقط هذه العبارة المکررة في جميع المؤسسات وخاصة الحکومية ويصنع لنا واحدة من المسرحيات التي کشفت لنا عن تخبط الإدارة والمواطنين وحب هؤلاء الموظفين للسيطرة وتعذيب الناس .

ويؤکد ذلک دکتور " وليام هاتشنز " بقوله " يعتبر"  محمد سلماوي" أحد أبناء جيل جديد من کتاب الثمانيات في مصر ، جيل بلغ مرحلة النضج ، من حيث الجدة والانتماء إلي جيل مغاير ، هذا الجيل يکتسب أهمية خاصة في الأدب المصري خلال القرن العشرين ، فثمة عدد من الأعمال نجد فيها أن الشخصية الرئيسية تحدد من خلال حدث سياسي محوري خاصة ثورتي مصر 1919 م ، 1952 م ". (  9 )

" إن مسرحية سلماوي " فوت علينا بکرة " مسرحية تفضح الواقع المأزوم وعجز الإدارة وفسادها وأزمتنا الراهنة هي أزمة إدارة وفسادها وعجزها في حل وتنبي مشاکل الناس ويتم فيها سحق الفرد إلي رقم ، ليتحول من الملموس إلي المجرد وهي سمة غالبة في مسرح العبث الواقعي " ( 10 )

ويقول محمد سلماوي عن مسرحية " فوت علينا بکرة " إن العبث يکون في بعض الأحيان هو الوسيلة المثلي  للتعبير عن بعض جوانب واقعنا المعاصر فقد تفاقمت مشاکل حياتنا اليومية بسرعة مذهلة خلال السنوات القليلة الماضية بحيث أصبحت المسافة بين الحياة التي کنا نعيشها في الماضي وتلک التي نعرفها اليوم هي المسافة بين المسرح الواقعي والذهني والمنطقي الذي عرفناه في الستينيات وبين هذا الذي أکتبه اليوم مسرحية " فوت علينا بکره "

لذلک ربما يکون ما أکتبه هو الواقعية ذاتها ، لأن واقعنا اليوم عبثي ، وطريقنا لتغييره مرتبط بمدي إدراکنا بعبثيته " (11 )

ويقول دکتور عبد العزيز حمودة في تقديمه للمسرحية :- " يلتقط "محمد سلماوي" جملة فوت علينا بکره المألوفة فيحولها في جرأة شديدة إلي شئ جديد غير مألوف شئ يثير سخطنا علي الواقع المقلوب وکأننا نراه الآن لأول مرة من خلال عيني المؤلف فنکشف عبثيته الصارخة ،
لقد نجح المؤلف في تطوير مسرح العبث لمضمون مصري خالص ليس باختياره لموضوعات مستمدة
من الواقع الذي نعيشه فحسب ، وإنما أيضاً باستخدام الأساليب العبثية بشکل مختلف ولأهداف جديدة "
(12)

فالبناء الدرامي داخل مسرحية " فوت علينا بکرة " يتکون من ثلاث مشاهد أو لوحات متجاورة هذه المشاهد تشکل أحداث المسرحية وهذه اللوحات متشابکة مع بعضها البعض ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً .

والبناء الدرامي في أي مسرحية هو العمود الفقري لها وهو يستلزم أن يکشف الکاتب من خلاله عن مرحلة البدايات أو الموقف الرئيسي الذي يفجر الأحداث ، بشرط أن يکون هذا الموقف صالحا من الناحية الدرامية وأيضاً يشتمل البناء الدرامي علي حتمية المفارقات في العلاقات الإنسانية  داخل العمل الدرامي والتي تتشکل منها اللوحات الدرامية المتجاورة والمتشابکة في أحداث المسرحية حتي يصل بنا الکاتب من خلال هذا البناء الدرامي إلي الحل الذي يقدمه في نهاية العمل أو يترکه مفتوحا  ً.

فالمشهد الأول في مسرحية " فوت علينا بکرة " ترصد أحداثاً عادية وترصد لنا قصة شاب يدعي " أحمد " وقد تخرج هذا الشاب من الجامعة وتعرف علي فتاة وتم الاتفاق بينه وبين الفتاة علي الخطوبة وتکملة المشوار معاً حتي الزواج والاستقرار ومن ثم يبدأ " أحمد" في البحث عن عمل داخل وطنه لکي يحقق هذا الحلم فلم يجد ما يحلم به داخل بلده وهنا يقرر علي الفور السفر إلي إحدي الدول العربية :

أحمد        : عايز أختم الأوراق دي لو سمحت

عبد العال  : أوراق ايه يا ابني ؟

أحمد        : شهادة التخرج وشهادة المعاملة وصورة من ..

عبد العال  : تختمها ليه يا ابني ؟

أحمد        : الحقيقة أنا أصلي مسافر للخارج وسيادتک عارف طبعا ً الوقت ...

عبد العال  :   تسافر ؟ تسافر ليه يا ابني ؟  .  (13)

ويأتي المشهد الثاني في المسرحية ونري "أحمد" يقف داخل مصلحة حکومية أمام موظف ويحمل أوراق سفره يريد أن يختمها بخاتم المصلحة وهنا يقول له الموظف الذي يُدعي عبد السلام أفندي " فوت علينا بکرة " لأن عندهم اجتماع مهم مع مدير المصلحة " عبد العال بيه " ويتشبث احمد بالأمل وينتظر حتي ينتهي هذا الاجتماع في محاولة منه أن يقابل مدير المصلحة ويحاول إقناعه بان يجعل الموظف المختص يختم أوراق سفره .

وهنا يحدث توبيخ عنيف من عبد العال بيه لأحمد ويحاول إقناعه بالبقاء داخل وطنه هذا الوطن الذي رباه وعلمه ولابد من جلوس أحمد في هذا الوطـن لکي يبني ويعمــر هذا الوطن الغالي .

عبد العال ( بک )  : أزاي تهاجر يا ابني وتسيب بلدک ؟

                 :   البلد محتاجة لسواعد کل الشباب اللي زيک .

                 :     بقي بعد بلدک ما تحملتک وهيأتک وخليتک

                  :     راجل تقوم عايز تسيبها وتسافر ؟

أحمد                : ما قلناش حاجة يا فندم لکن .....

عبد العال ( بک )  : أزاي يا ابني تسيب بلدک

              : واهلک اللي صرفوا عليک دم قلبهم وتهاجر لبلاد بره ؟

              : هو ده اللي علموه لکم في المدارس تسيب وطنک ؟ تتخلي عنه ؟ (14)

ومن هنا يتحول الحدث البسيط إلي حدث معقد يفرضه الواقع المصري الذي ينبع من قلب الأحداث الحقيقية التي تحدث داخل المجتمع وهنا يلجأ " محمد سلماوي " إلي مسرح العبث ويعتبره هو القالب الفني الأقدر تعبيراً عن هذه الواقعة المتجددة والمستمرة في حياتنا وأن هذا العبث ليس غريباً عن الشعب المصري ، لذلک نجد المواطن احمد يتعجب مما يحدث أمامه ويعتبر هذا الموقف العبثي مهزلة حکومية تعرقل کل الجهود وتقف أمام التقدم الحضاري في هذا البلد العظيم ويقول :

أحمد                   : يا أخونا مش معقول کده !

                         :   أنا مش قادر أصدق اللي بيحصل ده ! ( في سخرية )

                        :  أنا حاسس إني باتفرج علي مسرحية من مسرحيات اللامعقول !

عبد السلام أفندي   : اهو أحنا بقي بتوع اللامعقول ،

                         :  أحنا اللي بدعناه قبل ما يعرفوه في بلاد بره ! عايز ايه بقي ؟

عبد العال ( بک )  : التحقيق يا عبد السلام أفندي .

أحمد                     : أنا في حلم ولا في علم ؟ (15)

ومن هنا تبدأ الأحداث تتصاعد حتي تصل إلي المشهد الأخير عندما يتم تقديم الشاب احمد للمحاکمة والتحقيق معه بتهم کثيرة منها تفجير المکتب الحکومي وهنا تبدأ الأسئلة

أحمد                   : وده لزومه أيه بس يا فندم ؟ أيه اللي أنا عملته ؟

عبد العال (بک )   : مش عارف عملت أيه ؟

                    :   أنت مخرب يا أستاذ .حاولت تفجر أحد المکاتب الحکومية

                    :   عن طريق وضع بعض العبوات الناسفة ...

موظف (1)          : تحت المکتب

موظف (2)            : وراء الباب

موظف (3)          : جنب السلم

موظف (4)           : علي الشباک

عبد العال ( بک ): شوف يا ابني انا ممکن أخلصک من کل ده

                  : بس لو توعدني انک تبعد الطيش ده وتستقر في حياتک . هه ؟ قلت ايه ؟

أحمد                   : أوعدک يا فندم بس أرجوک أخرج من هنا (16)

 

وعلي الرغم من توسلات الشاب أحمد إلي عبد العال بيه وأفراد عصابته الحکومية نراهم يصمون آذانهم ويعقدون له محاکمة فورية ومن خلال هذه المحاکمة يتهم أحمد بأبشع التهم وهي خيانة الوطن وتنتهي هذه المحاکمة الخيالية وقد قرروا تنفيذ رغبة المواطن أحمد في ختم أوراق سفره وهنا يدفعه الموظفون إلي الجدار المقابل ويجردوه من ملابسه ويحمل الموظفون خاتم کبير ضخم مرعب وهو خاتم الدولة ويظلون يختمون به أحمد علي ظهره بشده وعنف حتي يفارق الحياة في مشهد عنيف ورمزي يدل علي بشاعة السلطة وظلم وقهر المواطنين داخل دولة من دول العالم الثالث لا تؤمن بالحرية ولکن تؤمن  بالعنف وقهر المواطن .

ومن هنا کان مسرح " محمد سلماوي" مسرحا ً اجتماعيا ً نفسيا ً يقترب کثيرا ً من نقد الواقع والحياة الاجتماعية التي عاشها المواطن المصري لسنوات طويلة ونتمنى في ظل الحرية والعدالة الاجتماعية التي نسعي إليها بعد ثورة 25 يناير أن نتکاتف جميعاً ونغير من بلدنا هذه العادات السيئة ونحافظ عليها ونرتقي بها .

وعندما نذهب إلي الحوار الدرامي داخل مسرحية " فوت علينا بکره " نري أن الحوار الدرامي يلعب دورا ً کبيرا ً في تفجير الأحداث ويلخص ويکثف دلالات المسرحية وتکمن أهميته ودوره في البناء الدرامي للمسرحية .

" فالحوار إذن لتقديم حدث درامي إلي الجمهور دون وسيط  وهو الدعاء الذي يختاره أو يُرغم عليه الکاتب المسرحي لتقديم حدث درامي يصور صراعا ً إراديا ً بين إرادتين  تحاول کل منهما کسر الأخري وهزيمتها .(17)

ومن ثم نجد الحوار داخل مسرحية " فوت علينا بکرة " يعتمد علي العامية الدارجة والمتداولة بين العامة ويتميز الحوار داخل هذه المسرحية بملاءمته للشخصيات التي تتميز ببساطة في ترکيبها ويساعدها الحوار في التعبير عن الموقف ويولد الحالة النفسية المسيطرة علي الأحداث أيضا ً ويتضح ذلک من خلال هذا الحوار :

أحمد                : استني بس يا نبيلة

نبيلة                 : استنينا کثير لما خلاص فاض بينا ، کفاية بقي !

عبد السلام أفندي  : أدي اللي اتعلموه في المدارس يا سعادة البيه

نبيلة                     : حرام عليکم اللي بتعملوه ده ، مش حايفضلکم حد في البلد ،

                  : خربتوها وقعدتم علي تلها عايزين ايه تاني ؟

عبد العال ( بک)   : أنا شخصياً عايز عنوانک . (18)

ومن هنا نجد أن الحوار في " فوت علينا بکرة " جاء مقنعا ً وسهلا ً يصل إلي الغرض المطلوب منه ببساطة وهو الروتين اليومي والوهمي الذي يتحکم ويسطر علي مجريات الأمور داخل مجتمعنا ، وهذا علي المستوي الظاهري للحوار ، حيث نري أن من سمات الحوار الأدبي الجيد البساطة والوضوح ، مع ما يحمله من کثير من الإسقاطات والدلالات الکثيفة التي تميز بها أسلوب " محمد سلماوي"  في أعماله المسرحية

فالحوار هو الدعامة الوحيدة التي ينسج بها المؤلف الحدث ويرسم بها الشخصيات بأبعادها الثلاثة الجسمي والنفسي والاجتماعي ، فالحوار أيضاً يوضح من خلاله المؤلف الصراع وينميه ، سواء کان هذا الصراع صراعا ً خارجيا ً أو بين الشخصيات المتصارعة داخل العمل الفني  بعضها البعض .

ومن ثم فالحوار لابد أن يتميز بالترکيز والتکثيف لکي يجعل من العمل الفني أو المسرحي حدثاً فريدا ً متميزا ً عن سائر الفنون الاخري ، وهذا ما فعله" محمد سلماوي" في مسرحية " فوت علينا بکره " .

وعندما نذهب ونتحدث عن اللغة في مسرحية " فوت علينا بکره " نري أن الکاتب "محمد سلماوي"  قد استخدم اللغة العامية المثقفة التي لا يصعب فهمها وقليلا ً جدا ً استخدم الفصحى داخل المسرحية نفسها ليدل علي اختلاف الطبقات من خلال التعليم :

عبد السلام افندي : سته

أحمد                   : آه !

الکورس                : حانکله حته حته

نبيلة                    : متيأسش يا حبيبي ده کابوس وحاينتهي والمستقبل حايکون لنا

عبد العال ( بک ) : مستقبل ايه يا حلوة اللي انت بتقولي عليه ؟

                 :   انتم عايزين تأخدوا المستقبل کمان !

نبيلة               : ايوه أحنا المستقبل وانتم الماضي لا يمکن تستمروا ،

                 :  عصرکم خلاص سقط وانتهي (19)

هکذا انحاز " محمد سلماوي"  إلي اللغة العامية ، لکي يُعبر بحرية عن الواقع الأليم الذي عاش فيه الشعب المصري لفترات طويلة بکل سهولة ويسر وعدم إسراف وصعوبة في اللغة المستخدمة ، فالمجتمع في هذه الفترة کان يعاني من الجهل والأمية ، ولذلک وجد  " محمد سلماوي" اللغة العامية هي الأنسب لکي يخاطب بها الناس عن هذه المشکلة التاريخية والمستمرة حتي الآن داخل البلاد ، وبالفعل نجح محمد سلماوي في توظيفها داخل  مسرحيته علي أحسن وجه .

وعندما يلجأ أي مؤلف لرسم شخصيات مسرحياته ، فإنه يجد صعوبة بالغة ومعقدة في ذلک ، لأن عملية رسم هذه الشخصيات تستعصي علي کيفية الإقناع بها

ويؤکد ذلک " جون جو لزوورثي"  بقوله : " إن مسألة خلق الشخصيات برمتها مسألة غامضة بل لعلها اشد غموضا ً والتواء ً عند الشخص الذي يخلق الشخصية إنها عند أولئک الذين يتسمون أو يکتئبون وهم يشاهدون خلق الشخصية ، أنها عملية لا ضابط لها ولا مرجع نرجع فيها إليه ، عملية لا يمکن الاستناد فيها الي النصوص والمستندات کما أنها تستعصي علي التعريف الدقيق المضبوط " . ( 20 )

لذلک وجدنا الاهتمام الکبير الذي اتبعه " محمد سلماوي"  في رسم شخصيات مسرحية    " فوت علينا بکرة " فهو قد اختار هذه الشخصيات من البيئة التي تربي فيها وتعود عليها الناس ، حتي لا تکون هذه الشخصيات غريبة علي الأحداث ويستطيع أي فرد أن يضع نفسه مکان هذه الشخصيات ويتأثر بها وبما وراءها من إسقاطات ، مما يجعله يندمج معها . ومن ثم نجح"  محمد سلماوي " في رسم هذه الشخصيات واستطاع أن يجعلنا نهتم بهذه الشخصيات ، ونتأثر بها ونضع أنفسنا مکانها .

ويتضح ذلک من خلال شخصية الشاب أحمد الذي يحارب من أجل فرصة عمل داخل وطنه وعندما عجز عن ذلک وجد ضالته في السفر إلي الخارج لکي يحقق رغبته في الزواج من الفتاة التي أحبها واتفق معها علي الزواج وهي شخصية" نبيلة"  تلک الفتاة الصابرة والتي تحلم بعيشة متوسطة وتعقد الآمال مع أحمد من خلال السفر إلي الخارج لصنع مستقبل لهما ولأسرتها الصغيرة ولکن الروتين والتخلف الموجود داخل مجتمعنا يقف أمام أحلام أحمد ونبيلة من خلال "عبد العال بيه" و"عبد السلام أفندي" و"عبد المجيد أفندي"  موظفي الدولة .

أحمد                     : کنا سوا في الجامعة واتفقنا علي الجواز أنا خلصت وهي لسه .

                             :  لکن من يوم ما أتخرجت وأنا مش قادر أوفي بوعدي

نبيلة                      : قعدنا نحب بعض سنتين في الجامعة وبعدين أول ما أتخرج خطبني من بابا .

                             : وفاتت سنين واحنا لسه مش قادرين نتجوز

عبد العال ( بک )  : لازم بتحبک قوي خطيبتک دي ؟

نبيلة                 : أنا انتظرت تلات سنين ومستعدة انتظر ثلاثة کمان لغاية ما يرجع من السفر

عبد السلام افندي   : يا عيني علي الصبر شايف الحب يا سعادة البيه ؟

                     :جيل بايظ صحيح ! آدي اللي شاطرين فيه (21)

لقد استطاع "محمد سلماوي" في مسرحية فوت علينا بکرة " أن يختار بعناية شخصيات هذا العمل الفني ، فلقد ظهر تأثره بالبيئة الاجتماعية والحالة النفسية المسيطرة علي المواطن العادي والبسيط تجاه تطبيق مثل هذه الأفعال التي تتسبب في تخلف وخلق جيل من الشباب يعاني من الإحباط والاستسلام إلي اللامبالاة والموت کما فعل أحمد عندما استسلم للمحاکمة الوهمية داخل المصلحة وقضت بختمه حتي الموت .

وعندما ننتقل إلي وحدتي الزمان والمکان داخل مسرحية " فوت علينا بکرة " نري أن الزمان والمکان هما المدخل الرئيسي لأية مسرحية بوجهيها الدرامي والمسرحي ، وتمثل البيئة الزمانية والمکانية في أي عمل أدبي عنصرا ً مهما ً في تفسيره وتحليله .

ومن هنا نجد أن مسرحية " فوت علينا بکرة " تتکون من منظر عام بسيط يتکون من حجرة بإحدي المصالح الحکومية علي اليمين مکتب ضخم وکبير خاص" بعبد العال بيه" وعلي اليسار مکتب صغير "لعبد السلام أفندي" ومجموعة من الکراسي للزائرين وأکوام من الملفات يصل إلي السقف وتغطي مساحات کبيرة من الحجرة ونجد في مکان بارز من الغرفة يقف خاتم کبير ارتفاعه حوالي مترين ويتکون من يد خشبية طويلة .

ومسرحية " فوت علينا بکرة " تتکون من ثلاثة مشاهد وهذه المشاهد المتتابعة تجعل من الحبکة الدرامية داخل المسرحية متناسقة ومتتابعة لکي تخدم الأحداث الدرامية للمسرحية .

ومن  الأحداث التي تتم في الزمان والمکان حدث ختم الشاب أحمد بخاتم المصلحة والدولة داخل حجرة الموظفين علي ظهره حتي الموت ونري ذلک واضحا من خلال هذا الحوار :

عبد العال ( بک ) : أهلاً . . أهلا ً نبيلة هانم ،

                 : أنتي شرفتي طيب تعالي أتفرجي بقي علي خطيبک وإحنا بنختموا

عبد السلام افندي   : أربعة

الکورس            : أربعة خمسة ستة

أحمد                : مش قادر يا نبيلة

عبد السلام أفندي: خمسة

أحمد                 : آه !

نبيلة                 : ( جالسة علي الأرض ومحتضنه ساقي أحمد ) يا حبيبي يا أحمد (22)

فالحوار هنا يرصد بشکل مباشر تفاصيل الزمان والمکان باعتبارهما شيئا ً موجودا وعلي المتلقي أن يصدق ذلک ، بُناء ً علي التخيل الذي يقع فيه عندما يتناول أي عمل درامي بالقراءة والاستيعاب .

وهنا يدق "محمد سلماوي" ناقوس الخطر حول هذا الوضع السيئ الذي يؤدي في النهاية إلي عواقب وخيمة ، وهي الثورة علي الأوضاع الحالية وهذا ما حصل بالفعل عندما قامت ثورة 25 يناير .

فالاستعداد النفسي للوقوع في الخطأ هو الذي يؤدي بالبطل إلي مصيره المحتوم وبالتالي فان الخطأ عند الشاب أحمد انه لا يدري شيئاً عن الروتين الحکومي وتعطيل مصالح الناس ، فهذا الخطأ إداري  إلا أن احمد يلبس هذا الخطأ الإداري ثوب العذرية بأن يضع نفسه في موقف التضحية من أجل الآخرين ، وهنا يصبح القدر البطل وليس خارجه .

ومن هنا نلاحظ أن الکاتب المسرحي " محمد سلماوي"  يولي النفس البشرية أو ما يسمي المسرح النفسي عناية کبيرة ، فهو في أعماله الأخري يمهد للغموض في أعماق النفس البشرية دونها  لجوء إلي التعقيد أو الغموض ، مستهدفا ً في نهاية الأمر الخروج من الوهم الذي يعيش فيه أبطال أعماله المسرحية إلي الواقع بکل ظروفه المعقدة والبسيطة من هم الإنسان المقيد بالهموم إلي واقع الإنسان الذي يحلم بحياة مستقرة سعيدة له ولأبنائه و لمجتمعه .

فالقضية داخل مسرحية "فوت علينا بکرة " تصور الإنسان في المجتمع النامي المتخلف علي أنه يعتمد علي الوهم والروتين اليومي ، فالتخلف في صنع القرارات يشکل مجتمع يعاني من التخلف والفوضى ، ولهذا سمعنا کثيراً من الناس في هذه المجتمعات أنهم يريدون ترک هذه البلاد والهجرة إلي عالم متقدم به کل شئ متاح من تعليم واقتصاد قوي وحرية تعبير عن الرأي وأسواق تجارية ...الخ ، فالإنسان النامي المتخلف هو قضية الکاتب" محمد سلماوي" الذي أراد أن يخرج من الوهم إلي الحقيقة والنور في مسرحية " فوت علينا بکرة " .

ومن ثم نري أن کتابات محمد سلماوي المسرحية تستمد وجودها وأفکارها من واقع الحياة التي عاشها علي سطح هذه الأرض ، فجاءت أفکار مسرحياته مستوحاة ومرتبطة بمجتمعه بکل قضاياه الحياتية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العاطفية أو الفلسفية ، فالمؤثرات الحياتية من المصادر الهامة التي تدفع الکاتب للکتابة والتفاعل الايجابي مع المشکلات المختلفة التي يمر بها المجتمع وإيجاد الحلول المناسبة لها .

فلقد تميز "محمد سلماوي" في کتاباته المسرحية بالإحساس العالي للمشاکل الاجتماعية والسياسية القائمة داخل المجتمع وسقوط الإنسان العادي تحت وطأة السلطة الساحقة ، مما دفع الإنسان في نهاية الأمر إلي الثورة لکي يدافع عن نفسه ووطنه ويحقق الحرية الاجتماعية لکل أفراد المجتمع وهذا ما ظهر واضحاً في أعقاب ثورة 25 يناير 2011م .

فالموظفون الموجودون بالفعل علي مکاتبهم بخدمة المواطنين وحل مشاکل الجماهير قد تحولت إلي محاکمة غير عادلة لتعذيب المواطنين البسطاء وتعطيل أعمالهم ولصق وتلفيق التهم إليهم ، فالموظفون يجدون في قرار أحمد الشاب الطموح في تحقيق حلمه بالسفر لکي يحقق الاستقرار وتحسين أوضاعه ، أن هذا القرار سلوک مريب وشاذ ولابد من محاکمة هذا الشاب علي هذا الفعل .

ومن هنا نجد أن " محمد سلماوي"  کاتب جرئ وشجاع فهو يناقش هموم الشارع المصري وضعف النظام داخل الدولة من خلال مؤسساته الحکومية من خلال عرض صريح للواقع الأليم داخل هذا المجتمع ليرصد لنا هموم المواطن البسيط الذي جاء يحمل جواز السفر لکي يغادر الوطن هذا الوطن الذي سد کل الطرق أمام هذا الشاب وغيره من الشباب فلا توجد فرص عمل متاحة وتنتشر البطالة في کل أرجاء المجتمع لهذا نري  معظم الشباب يقررون مغادرة البلاد والسفر إلي الخارج لکي يجدوا فرصة عمل تساعدهم علي الاستقرار والزواج وتکوين أسرة ، فالحالة النفسية لهؤلاء الشباب متدهورة وإن لم يجدوا حلاً لهذه المشکلات تحولوا إلي عناصر فاسدة هدامة لمجتمعاتهم .

ومن ثم يري الباحث أن الکاتب"  محمد سلماوي" قد نجح في استخدام المسرح وعلم النفس لمعالجة الکثير من الأمور والقضايا الهامة التي تمر في حياة المجتمع الذي يعيش فيه ، فهو لا يُنکر الجميل لهذا الوطن الغالي الذي رعاه وتربي فيه ، ولهذا وجدناه يعتبر قلمه ضميرا ً حيا ً للتعبير عن المشکلات التي تؤثر في مجتمعه فهو فرد من الملايين الذين يعيشون علي تراب هذا الوطن الغالي ، ولهذا وجدناه يرد هذا الجميل من خلال أعماله المسرحية المتعددة مثل " فوت علينا بکرة " "واللي بعده" و"الجنزير" وغيرها من الأعمال والتي تتناول المشکلات ونراه المختلفة ويحاول إيجاد الحلول المناسبة لها .

الخاتمـة

وفي النهاية نجد أن ظاهرة الإغتراب تهتم  بدراسة سلوک الفرد ککائن له وحدته متکامل ويشکل سلوک الفرد تبعا ً لعوامل کثيرة متعددة منها عامل الوراثة الذي ينقل إليه صفات معينة من آبائه وأجداده وعوامل تاريخية وظروف خاصة مرت به في الماضي والحاضر وعوامل البيئة التي تحيط به وأيضا ً عوامل  فسيولوجية تختص بوظائف أعضائه قد يطرأ عليها تغييرات تنعکس علي سلوکه وتصرفاته

لذلک کان من الطبيعي أن تکون مهمة ظاهرة الإغتراب والمسرح هي الکشف عن مدي اشتراک هذه العوامل في تحديد سلوک الفرد البشري وإيجاد الحلول المناسبة من خلال المسرح .

فالمسرح  قد نجح في معالجة الکثير من الأمور والقضايا الهامة التي تمر في حياة أي مجتمع ، فکتاب الدراما يعتبرون أنفسهم ضميرا ً لهذا المجتمع ووجودهم في هذا العالم جعلهم يعبرون عن المشکلات التي تؤثر في هذا العالم ، فهم أفراد من الملايين الذين يعيشون لکي يجدوا حلولا للمشکلات المختلفة من خلال کتاباتهم المسرحية .

فهم يدرکون أن الشخصيات المسرحية إنما هي نماذج من الحياة تعاني من اضطرابات وخلل ما نريد من خلال العمل المسرحي علاج هذا الخلل والوصول به إلي حل المشکلات المختلفة التي تواجه ، وهذا ما تم بالفعل في مسرحية " فوت علينا بکرة " للکاتب  محمد سلماوي وأيضا ً مع أي کاتب وأي عمل درامي 0

ومن هنا يري الباحث أن ظاهرة الإغتراب ليست نتاجاً لفرد معين وليست وليدة العصر الحالي بل وجدت مع الإنسان منذ لحظاتة الأولى على سطح الأرض والإغتراب طبيعة موجودة داخل کل إنسان ولکنها تختلف من إنسان لأخر ومن عصر لأخر ، ولهذا وجدنا مدى العلاقة الوثيقة بين الإغتراب والمسرح في علاج الکثير من الحالات التى تعاني من هذا المرض .

ومن هنا يتحدد الإغتراب من خلال ثلاثة أرکان الأول البعد الحسي ويشعر فيه الإنسان بالإغتراب عن وطنه وأهلة وهذه غربة عادية يشعر بها من خلال شعر عدد کبير من الشعراء قديماً وحديثاً ، أما الثاني فهو البعد القيمى ويشعر فيه الإنسان بالإغتراب عن مجتمعة الذي يعيش فيه وهذا من أصعب وأشد أنواع الإغتراب وأقساها ويتضح هذا الإغتراب بقوة في المجتمعات التى تعاني من السطو على الأفراد وتسلبهم عقلهم في التعبير والحرية عن الرأي ، وأما الثالث فهو البعد الذاتي ويشعر فيه الإنسان بالإغتراب عن ذاته وکيانه ويتولد عنده  شعور حاد بالتوتر والقلق وإنعدام في الثقة بالنفس ، ومن هنا نجد أن ظاهرة الإغتراب ظاهرة إنسانية شاملة ولکنها أکثر حدة في المجتمعات التى تملک رأس المال نتيجة فعلية لما عرضة من تطور إقتصادي وتکنولوجي هائل .

 

هوامش البحث
1.       حبيب الشارونى : الإغتراب في الذات ، مجلة عالم الفکر ، الکويت ، 1979 ، ص 70 .
2.       فاطمة طحطح : الغربـــة والحنـين في الشعــر الأندلسي ، مطبعـــة النجــاح الجديدة ، 1993 : ص 34 .
3.       أنيس فهمي أقلاديوس : المسرح والسينما وأمراض النفس ، الهيئة المصرية العامة :  للکتاب ، القاهرة ، 1981 ، ص 30
4.       هند قواس : المسرح في مجال الأدب وعلم النفس ، دار الکتاب اللبناني ، بيروت 1982 ، : ص 15
5.       س موريه : الشعر العربي الحديث ، ترجمة : سفيح السيد ، دار الفکر العربي ، القاهرة ، :  1986 ، ص 335 .
6.       محمود رجب : الاغتراب ، دار نشر الجامعة ، الإسکندرية ، 1979 ، ص 8
7.       أنيس فهمي اقلاديوس : المسرح والسينما وأمراض النفس ، مرجع سابق ، ص 3 .
8.       کمال الدين حسين : المسرح والتغيير الاجتماعي في مصر من 1952 : 1970 ، رسالة : ماجستير ، معهد النقد ، أکاديمية الفنون ، غير منشورة ، 1985 ، ص 1
9.       نبيل فرج : العبث والواقع ، مسرح محمد سلماوي ، دار ألف للنشر ، القاهرة 1992 ، :  ص 66 .
10.    خليل الجيزاوي : مسرح المواجهة ، قراءة في مسرح محمد سلماوي ،الهيئة المصرية : العامة للکتاب ، القاهرة ، 2004 ، ص 20
11.    عبد العزيز حمودة : مقالة في مجلة إبداع ، محمد سلماوي وعالم المنطق المعکوس ، :   يوليه ، 1998 .
12.    محمد سلماوي : مقدمة مسرحية فوت علينا بکرة ، دار الوفاء ، للنشر ، القاهرة 1983 ، :   ص 8
13.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مکتبة الأسرة ، سلسلة الأدب ، الهيئة المصرية : العامة للکتاب للکتاب ، القاهرة ، 2005 ، ص 41 .
14.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق ، ص 42 .
15.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق ، ص 54
16.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق، ص 63 ، 64 .
17.    عبد العزيز حمودة : البناء الدرامي ، الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة ، 1998 ، : ص 139 .
18.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق ، ص 53
19.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق ، ص  68 .
20.John galswarthy, " creation of character in literature in candelabra charles scribner's sons , p 291  .
21.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق ، ص 50  .
22.    محمد سلماوي : مسرحية فوت علينا بکرة ، مرجع سابق ، ص 67  .