شعرية النص أشعار ناصر الدين الأسد نموذجاً

نوع المستند : مقالات علمیة محکمة

المؤلف

جامعة جرش

المستخلص

يسعى هذا البحث الى تسليط النور على أشعار الناقد الفذ" ناصر الدين الاسد والذي ابدى تخوفه من نشر أشعاره الزمن غير يسير ونظراً لقلة ما تناقله البعض عنه من اشعار ولترد البعض الآخر من دراسة الجوانب الشعرية عنده ولخوفهم من الأنخراط في وسائل قد تهم تضبيب مسيرته النقدية، إلا أن الأمر يعد ومختلف عندما يخرج الى النور کتاب يتضمن مجموعة من القصائد التي يراها الباحث الحالي الانطلاقة الأولى التي تظهر تراجع ناصر الدين الأسد عن تخوفه وتحت القراء على تلقي هذه النصوص وتناولها نقدياً.
            لقد وقع اختياري على دراسة هذه الأشعار لاعتقادي بوجود نکهة خاصة لأشعار تتوالد عن ذاکرة ناقدة، لها مرجعية خاصة في تناول النصوص وتحليلها، ثم أن هذا الشاعر الناقد يشکل عنواناً لجيل يقع بين جلين، جليل الأحصائيين والمهتمين بالقصيدة التقليدية وجيل القصيدة الحداثية. ومن هنا ارتأتت أن أعرض إلى الأمور التالية، بوصفها متطلبات اساسية في تحليل أشعار ناصر الدين الأسد وهي (لغة النص ومتعرجة النص ومرديتة) ولم أکتف بالتنظير وإنما ذهبت الى تعزيز الجانب التطبيقي على النصوص الشعرية فإخترت نماذج محددة تتوافق وعنوان هذا البحث ومساره أملآ أن يطالعنا هذا الشاعر الناقد بمجموعات أخرى مما هو مکتوب في جعبته وذا کرمة من أشعار لتکون محطاً للقراءة  والبحث.

            فإن ما يلفت الانتباه عند دراسة شعر ناصر الدين الأسد، لغة النص وسرديته، ومن هنا کان منطلقي البحث في هاتين المسألتين على اعتبار أنهما الأکثر إظهاراً واشتغالاً.

لغة النص:

إن اللغة العربية تشکل، على الورقة، الفضاء الأولي الذي يتشابک مع الفعل القرائي، ويتم عبور النص ابتداء من هذه  النقطة/البوابة. يرى أحد النقاد المحدثين : جان کوهن (J. Cohen ) أن هناک طريقتين لمواجهة القصيدة: لغوية والأخرى غير لغوية، ويذکر هذا الناقد أن (اللغة مکونة من مادتين، أي من حقيقتين، توجد کل واحدة منها قائمة بنفسها، ومستقلة عن الأخرى، تدعيان الدال والمدلول، حسب "سوسير" أو العبارة والمحتوى حسب "يامسليف" فالدال هو الصوت المتلفظ به، والمدلول هو الفکرة أو الشيء)، فاللغة إذاً هي الحاوي للفکرة الشيء.

وحيث أن الشعر، من أساسيات بنائه يتکئ على مسألة الانحراف اللغوي المحول إلى کلام، فتکون اللغة والحالة کذلک، الجسر/المعبر للوصول إلى الوظيفة النص وطرائقه التعبيرية، وبالتالي لتأسيس وجهة النظر تجاه ما هو مذاب وکائن فيه من قبل المتلقين. فمن خلال اللغة يتعزز ما يعرف بالکمون النصي (إذ حول کل موضوع معلن أو مذاع هناک کمون في الضمني لا يمکن إدراکه بالأدارة الثقافية. إنه ما ندعوه في الفکر: اللامميز، العائم)([1]) واللامميز في السياق النصي بصنعه منشيء النص، يبدعه عبر کلامه من اللغة، حسب ما يقوله الرمزيون ([2]).

والآن إذا عدنا لزمنية النصوص الشعرية عند الأسد، ورصدنا طرائق التعبير اللغوية عبر النصوص آنذاک، لوجدنا أنها، غالباً، جاءت بعد عصر الإحيائيين، وإبان التموحات البدئية لقصائد الحداثة والتجريب. اقصد بالاحبائيين هنا (شوقي وحافظ والبارودي)، وأقصد بالحداثين الذين أتو بعد الاحيائيين، وبعد شعراء المهجر ومدرسة أبولو والديوان الخ، مع الأخذ بعين الاعتبار شيوع المنهج الرومانسي آنذاک.

            ولا شک أن الشعراء يتباينون في استثمارهم لعنصر اللغة، تبعاً لأمورٍ عدة، تأتي في مقدمتها مرجعية الشاعر وسعة ثقافته، ونحن نقف اليوم أمام نصوص لشاعر مارس الفعلين "النقدي والشعري"، وهنا يمکن القول: إن الأسد لم ينخرط کثيراً في مسألة إحياء اللغة القديمة، فلم ينح منحى الاحيائين، فهو لم يمرر عبر لغتته الشعرية کلمات نراها نحن المعاصرون ميتة أو قريبة من الموات، ولم يفتح مساحة واسعة لبنيات جملية مربکة، حاضنة لتصورات فنية مستهلکة وقديمة، ومنجزة سابقاً، ثم إنه بالمقابل لم يتورط مع غيره من الشعراء ممن عاصرهم، على الأقل، بسعيه إلى اللغة العامية أو التي تقع على حواف العامية المتداولة، مع شيوع هذا النهج في العالم العربي، ومحاولة البعض لاختراق صرح اللغة، و نضرب مثالاً هنا سعيد عقل ودعواته حول هذه المسألة.

            الأسد کان أکثر وعياً وإنصافاً للعيش داخل لغته، والأطلال على خارجها في آن ، ومن هنا جاء احترازه الشديد من عالم الشعر والخوض في غماره، ولهذا نراه يتمنى أن يکون شاعراً، ويدرک أن مجريات الأمور الواقعة خارج الشعر وممارستها مؤثرة في الشعر، ولعل هذا السبب هو الذي اثار التخوف عند الأسد، لعدم ذکر أشعاره أو الالحاح على اظهاريتها، ويکون الباحث احمد المصلح على حق عندما يذکر أن (ثمة صعوبة تعترض الباحث في تجربة الأسد الشعرية)([3]).

            ولو حاولنا التمثيل على استثمارات اللغة الواقعة في أشعار الأسد، لوجدنا أنها تتوزع عبر التالي:

1-            بنية لغوية معاصرة، بعيدة عن التعقيد، والإيغال في التصويرات الخالية الغامضة، ومعجمها متداول ومفهوم.

             ومن القصائد التي تنتمي لهذا المعطى اللغوي (فکرة حائمة)([4]) والتي يقول في بعض أبياتها:

           

خلقتک من روحي الهائمة

 

وعُلتْکِ بالنـظرة الحالمـة

وکان خيالي المهاد الوثير

 

وکـنت بـه فکرة حـائمة

عطفت عليک فؤاد الهوى

 

وصنتک في مهجتي الراحمة

الدارس الحالي لهذا النص، لا يقع على بنية سياقية مربکة، أو معقدة فلا توجد کلمة تحتاج إلى عودة لمعجمات قصد توضيحها، ولا يوجد تقديم وتأخير يحيل إلى وقفة کبيرة، ولا يجد تصويراً ضارباً في الغموض بحيث يرهق المخيلة، لکن ذلک لا يغري بالبساطة کما يتوهم للوهلة الأولى لانطواء النص على مسائل تحيل إلى خارج النص وتستدعي القارئ / المتلقي لإعمال الفکر في منتجات نصية حافلة بالدلالات.

منشئ النص هنا يمشي على الحد الفاصل بين السهل والممتنع، وهذا يحتاج إلى قدر من الوعي والفکر والدربة، فقد طاوعته/الشاعر أدواته وتملکها  لانتاج نص شعري بهذه الکيفية التعبيرية وهي على قربها من المتلقي مکتنزة بالفعل والدلاة، وسأحاول تبيان هذا الامر.

إن المدخل اللغوي لهذا النص يضعنا أمام مفاصل عدة تشکل بکيفات انتشارها في النص قوى عمل تسهم في إحداث مقاربة تجاهه. بدءاً من العنوان ومروراً بالتصدير وانتهاء بأبيات النص.

منذ العنوان، الذي يشکل عتبة هامة لدخول فضاء النص وعالمه، يقف المتلقي على حقيقة ما، وتضاد لهذه الحقيقة، حيث يشي العنوان بمسألتين (الفکرة)، بوصفها واقعاً مفترضا يمکن تمثيله، و (الوهم)/ الضياع الذي يتجسد من خلال کلمة (خاتمة). العنوان بهذه الکيفية يصبح دالة سيميائية وله ترابطات مع مشتملات النص، سيما وأن اختيار العنوان يأتي بعد الانتهاء من النص، ومن هنا تبدو أهمية العنوان النصي فهي بمثابة (علامات لسانية، تصدر وتعين، وتشير إلى المحتوى العام للنص)([5])

ولعل إشارة التعجب، وکيفية الترقيم الواردة في العنوان، تعطي دفعة بهذا الاتجاه، فجاء ثبت التصدير ليعطي جرعة مرجعية حافزة لعبور مکونات النص. وإذا ما تم عزل اسم المهدى إليه عبد المنعم الرفاعي الذي دخل إلى النص بوصفه علامة خارجة لا تضيء کثيراً عوالم النص الداخلية، وتحيل معطياتها إلى العلاقة الشخصية، والإنسانية القائمة بين اثنين، ونبقى والحالة کذلک مع الجملة المفتاح (أنا ربک مني خلقت وإلي ستعودين).

مثل هذا الفهم يمکن أن يضاف إلى العنوان السابق، وربما إلى ماسيلي من کلمات أو جمل تسهم في تفکيک النص، والوقوف على دلالالته. حيث (هناک دائماً إمکانية لأن نجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه وجعله يتفکک بنفسه)([6]). وفق هذا المسار لا يکفي القول بمناقشة علاقة حب بين شاب وفتاه، أو معارضة بنص سابق، أو ذکر قصة آدم، هکذا عرضيا کما فعل المصلح([7]). المسألة في النص الإبداعي تکمن في احتمالات المعنى المثار.

إن الرجوع لبناء الجمل، وحرکية الأفعال والکلمات، يعطي القاريء مجالاً للحفر والاستحضار، ويعطي مجالاً لبناء العلاقات، حيث هنالک (أنا وآخر) (الرجل/المرأة) ويشعلان قيمة مرکزية، وبؤرة نووية تنحرک حولها اشتغالات النص بکامله.

تبدو الأنثى/المرأة هي التي تقف في الظل، في دائرة السلب والضعف ويبدو الرجل هو النقيض القوي الايجابي الفاعل، تصبح الفکرة في الحقيقة في العنوان مقابلة للرجل، والحائمة التي تعيش في الضياع والتيه، وهي المراة/ الآخر ويزيد هذا البعد إيغالاً وتعميقا لهذه المسألة: التصدير التناصي النابع من التراث الديني ، والذي يترسخ في ذاکرة الإنسان في هذا العالم، يغدو (الأنا) متسلطاً، قاهراً، يتجلى ذلک من الجملة (أنا وربک)، والضمير الساکن في (منّي) يشي بتوکيد هذا الفعل السلطوي، ومثله الضمير في (إليّ) وفي هاتين الکلمتين يبدو القبر للـ (هي) مدار حرکتها محصوراً بين مسافتين ضيقتين: (مني/إلي) ولا مهرب لذلک ويؤکد هذا المنحى فعل العودة (ستعودين) وإلى أين؟! (إلي).

            تبدأ معطيات العنوان والتصديرالعامرة بالتکثيف حول هذه المسألة الأنا والأخر بالانتشار في النص، وفي الاتجاه نفسه وبتوسلات اللغة ذاتها، وبکيفية اسلوبية تحمل على استمرارية هذا التصور لـ (هي). فمن دراسة متأنية لاختيارات الکلمة /الکلمات الموظفة في النص نلاحظ صدور الفعل من الأنا الفعل المتسلط باتجاه المنفعل / الضيف والمستلب فيه (ألهي). فالکلمات والجمل (خلقتک، عُلتک، عطفت عليک، صنتک، أنت وليدة هذا الخيال، تسجتک، وضعتک، أغذيک، حتى استقمت مني) کلها تحيل إلى قوة الأنا, وحرکته الفاعلة في خلق الآخر (ألهي)، وإعطائها التبرير للوجود، بمعنى لافعالية لها على الإطلاق إلا من فعاليته ووجوده.

            هذا المعطى يعزز جانب الضعف للأنثى/الأخر، وهو ما ترکز في الذاکرة العربية، وحتى أن الإنسان يحاول الاتکاء على النص الديني بتفسيره، وفق مشتهيات هذا التصور، الذي لا يتوافق حقيقة ومعطيات التصور الواقعي للأشياء ولنا أن نسأل هنا ما سبب هذا التوجه في النص، مثاله البيت الأخير في القصيدة:

فلما خرجت إلى عالم

 

الحقيقة أعرضت يا ظالمة

            فهو يعطي المتلقي مفتاحاً هاماً للبحث في احتمالات معنوية جديدة يولدها النص. لا سيما وأن کلمة (الإعراض) تفتح أفقاً جديداً من الدلالة.

            فإذا کانت الکلمات السابقة (خلقتک، علتک، الخ) تحيل إلى زمن ماضٍ متصور في ذاکرة النص والمتلقي في الأن نفسه، فإن الفعل (أعرض) رغم أنه في الماضي إلا أنه يحيل إلى الواقع الأن والأخر. ويبدو هنا أن التوظيف مغاير للرؤية التقليدية الکامنة في المفهومات الدينية، وهنا يتجلى بعد التناص، الذي ينطوي على مدخلات نصية مختلفة، وبکيفية تعبيرية تعطي أبعاداً جديدة ومثيرة، بحيث تحفز المتلقي على التأرجح بين عالمين، عالم النص (المدخل) وعالم النص الحالي، وبالتالي عقد مقارنة والخروج بوجهة نظر تجاه ما هو مثار، وبهذا يتجلى مفهوم (الاقتطاع والتحويل) المتضمن في مسألة التناص.

 وبهذه الطريقة تظهر قيمة اللغة في التعامل، قيمة لا يدر کها إلامن يتقن لعبة اللغة، لأن (الاستخدام المتقف للغُة ما يعني ممارسة نوع من السحر الايحائي)([8]).

            لعل الأسد/ الشاعر عبر مرجعيية اللافته من النقد، ومن دراساته على الشعر أفاد کثيراً، وأصبحت ذاکرته الجمعية حافلة بمعطيات مکنتها من إبراز کيفيات تعبيرية بسيطة ومکثفة في الوقت نفسه، فهذا النص على قصره (لا يتعدى الأبيات السبعة) إلا أنه يعطي مجالاً جيداً للاشتغالات النقدية، لا سيما إذا  کان التناول لهذا النص قائماً على إدراک الوحدة الشکلية والموضوعية فيه، حيث يبدو النص بکيفيته هذه وکأنه فضاء متکامل، مليء بالدلالات، وبهذا تکون القصيدة على حد تعبير ياکبسون (R.Yakbson)  (مجموع مرکب غير قابل للتجزئ، بصير کل شيء فيه، حسب عبارة لورلير دالاً ومتبادلاً ومتضاداً ومتناسباً)([9])

            ولنا أن نسأل هنا لماذا اختار الأسد الشاعر هذه الکيفية اللغوية؟

            لقد أدرک شاعرنا، هنا، المسافة المتوترة تماماً بين لغة الشعر ولغة العصر، وأدرک طرائق وأدوات الکتابة، من هذه النقطة الحرجة، باتجاه شعرية منفردة في نصوصه:

            لقد أتيت بهذه القصيدة نموذجاً لتحديد لغة الشعر عند هذا الشاعر، مع وجود نماذج کثيرة متماثلة الاسلوب عبر نصوصه الشعرية مثل قصيدة (يا طير) وفي قصائد الرثاء کذلک، وفي قصائده التي يکرر فيها العنوان: (إلى الخطيبة الحبيبه، مع أني أنظر اليهما نصاً واحداً، وقصيدة بعد عام الخ.


المحور الثاني

2-   بنية لغوية شعرية حاضنة لصور فنية.

            يرى الباحث أحمد الساعي: (أن الکلمة في ترکيبتها الجديدة، في الشعر صورة، ولکنها من نوع آخر، إنها صورة لغوية تؤدي الدور نفسه الذي تؤديه الصورة العادية، وإن کانت أشد غموضاً وتقصيراً منها([10]).

 فالشاعر عندما يمارس فعل إنشاء النص تکون اختياراته من اللغة کفيلة بتأسيس أسلوبية خاصة له، وبالتالي تبدو الصور الفنية التي نقع عليها معبراً مهما لتفکيک نصوصه والانتاج قدر من الدلالة، بحيث يمکن للمتلقي بوساطتها تکوين وجهة نظره، تجاه ما هو مثار، فالمتوالية النصية تقوم على هـذا الأساس بحيث (تسقط الوظيفة الشعرية مبدأ التماثل لمحور الاختيار على محور التأليف)([11])بقدر ما يتحرک الشاعر وينزاح عن اللغة الاعتيادية المألوفة، وعن التصويرات المستهلکة، بقدر ما يدخل في فضاء الکلمة الأکثر إبداعاً.

وقد يثور السؤال: ما علاقة اللغة بالصورة؟! إن مناط الصورة اللغة، فيها تتشکل وتظهر، والحرف صورة، والکلمة صورة، والجملة کذلک على فضاء الورق. وفي النص تتشابک العلاقات وتتداخل عند الشعراء، للتعبير عن مدخلات الواقع ومدخلات النفس، بوساطة رسم صورة تقرب للآخر مفهوماً يحثه على التمثل والتفکر في آن. فهذا "رجاء عيد" الباحث يرى: أن الصورة الشعرية هي التي تمارس الدور الفعال في خلق النسق اللغوي وبنياته داخليـاً([12]) فالانفعـال عنده (هو الذي يحفز الخيال على إعادة تحليل وترکيب البناء اللغوي، وذلک بسبب حيوية مخصبة في أعراق تلک العلاقات، التي يزيل الشاعر عنها رتباتها وينقض نمطيتها ([13])

سيقع اختياري للبحث في علاقة اللغة الشعرية بالصورة عند الشاعر الأسد على نص (أنت !)).([14])

يُفتتح هذا النص بالسؤال: أنت ماذا؟ وفي السؤال غالباً ما يتبطن استثمار عالم التکهنات والخيال للوقوع على إجابة ما، هنا يأتي دور اللغة الشعرية، فهي مدعوة لتقديم إجابة، لکنها خلاف الإجابة في الکلام الاعتيادي والمألوف. على اللغة الشعرية، هنا، أن تنحرف کثيراً أو قليلاً لإحداث مسافة التوتر والدهشة والتأمل، وهنا يتجلى المعنى العميق للشعرية، بحيث تصبح القصيدة الشعرية ليست بمثابة (التعبير الأمين عن عالم غير عادي، إنما التعبير غير العادي عن عالم عادي).([15])

تتشکل الصورة فنياً، بعد هذا السؤال، من خلال الاعتماد على کلمات معينة تحيل إلى الخيال بوصفه وعاء وقابلاً حاضناً لمثل هذه الصورة، التي لا يمکن إنتاجها عبر مواقع المألوف والمحسوس، فالقول: (أنت: ذوب أنفاس الضياء) و (رجاء يتهادى في سبحاتي) يستشير في المتلقي ذاکرته وخياله لتجميع العلاقات الکامنة خلف منتجات اللغة، بهذه الکيفية الترکيبية، ثم إن أي تغيير في مواقع الکلمات أو استبدالها سيؤدي بالضرورة إلى اللعب بالصورة، وبالتالي تغيير مسار تکوينها.

الکلمات المستقاة من معجم لغوي مألوف، تبدو في السياق غير مألوفة، لأنها لا تقدم مفهوماً متداولاً، ومعنى محدداً في ذاکرة المتلقين، وإنما تدعوهم إلى التحوير والتغيير فيما هو متعارف عليه، وبالتالي التمثيل والخروج بالدلالة، فالشاعر هنا يفيد من الشعر الحديث، وطرائق التعبير الحديثة، وأفاد من مسألة ما سمي بـ (تراسل الحواس)، حيث تختلط حواس البصر والذوق وحرکة التنفس وتتمازج لتعطينا، بوصفنا متلقين، تصوراً جديداً وحافزاً على التأمل والتفکير؛ فالأنفاس هنا تذوب کما تذوب مادة ما في سائل، ولنا أن نتخيل هذا السائل في الأنفاس اللامرئية، واقعياً، ولکنها ممکنة التخيل ذهنياً، وکذلک الحال إفادة الشاعر من مسألة التجسيد للأشياء فجعل من الرجاء صورة شبيهة لشيء يتهادى، لکن ليس في البحر، وإنما في السماء، وأي سماء؟ إنها فضاء الذات الإنسانية الشاعر المتکلم في النص.

اللغة هنا، بهذه الکيفية، کونت لنا صورة يمکن أن نتصورها خيالياً، للوصول إلى نقل دلالات جديدة لا يمکن الوصول إليها بسهولة، فهي تدعو للتأمل والتفکير للوصول إلى منتجاتها، وبالتالي مثل هذه الصور في النص المستندة إلى کيفية لغوية تسهم في تغذية الفکر الإنساني، وتحفيزه على النهوض بمفهوماته وتصوراته، بحيث يصل إلى مستوى منشئ النص، وفي مثل هذه التراکيب للصورة تعطي عمقاً للنص، وتظهر مدى خيرة الشاعر، ومدى تملکه لأدواته، وتقدم وجهات نظره عن الکون والعالم، فتکون صلة الشاعر بالعالم المحيط ليست صلة نثرية عاقلة، منطقية، بل صلة الحلم والرؤيا والتوحد صلة، الدهشة والافتتان اللذين يعصفان بالقلب والروح([16]).

وتتوالى أنماط الصورة في هذا النص، وتتصاعد تبعاً لتصاعد حرکة النفس والحلم عند الشاعر، بحيث ينثال على الورق من خلال التعبيرات السياقية وما يرشح من جوانية الشاعر وعوالمه الداخلية بعد معاينته للواقع والحياة، إنه في لحظة من التماهي مع الحبيبة، والتعلق بها، ولهذا يحاول أن يعطيها أوصافاً تنسجم وخصوصياته معها،  فهي تبعاً لذلک (ابنة الفجر وأخت الضحى)، وهي (رقة أنفاس المساء)، ولنا أن نلاحظ هنا تکرارية کلمة (أنت) لأربع مرات، على مدار أبيات أربعة، في حين أنها موجودة، إضافة إلى ذلک، مضمرة في کل جملة، وهذا ما يشي بمدى الحاجة وجودها وحضورها ليس على الورق فحسب، وليس في الکلمات الشعرية، وإنما في جوانية الشاعر وعالمه، فجاءت کلمة (أنت) لتدعم علاقة الصورة المکونة في النص والتي تحيل إلى الحبيبة، وتؤکد على حضورها، وتوسل الشاعر أيضا في هذا النص بتقديم مالا يأتلف في الواقع عن طريق الاستعارة والمجاز، فجعلها (ابنة الفجر) لماذا؟ لإحساسه بجمالية هذه اللحظة الزمنية المتوهجة والتي تضيء العالم، ولإحساسه للخط الزمني الجميل، وقت المساء، وعکس رقة علاقته معها واستقرارها بهذا الملمس الشفيف المتخيل:(رقة أنفاس السماء)، مع ملاحظة وجود الإفادة أيضا من مسألة (تراسل الحواس)، حيث الرقة تکون لمادة رقيقة ملموسة ويجعل للأنفاس شيئاً من هذا القبيل.

ولم يکتف الشاعر برسم الصور وجعلها لوحات فنية رائعة ممکنة التصور خيالياً، وإنما عاد لإقفال هذه اللوحة بالسؤال الذي يعيد المتلقي إلى التأمل من جديد، وإدخاله إلى فضاء مفتوح ومطلق، ليتخيل ما يشاء لقوله: (أصحيح أن هاتيک الرؤى صانها الرحمن من طين وماء) ؟، حتى إن التصور هنا، والذي يطرح من خلال هذا السؤل يحيل إلى المرجعية الدينية، وأصل خلق الإنسان، ليصل إلى توليد معان جديدة منها: أن  المحبوية تتسامى في رقتها وجمالها لتفوق الجنس البشري.

النص لم يقل، وفق التقديم التقليدي، أنها ملاک أو ما شابه ذلک، وإنما انحرف عن المباشرة، وبالتالي ليتمتع المتلقي بلذة الکشف والتأمل، والذي يقود لما يسميه رولان بارت: (R.Barthes )(لذة النص) فها هو يذکر: (يقدم إليّ نص، هذا النص يضجر فيّ لکأنه يثغثغ، وثغثغة النص، لا تعدو کونها رغوة اللغة، التي تتشکل تحت تأثير مجرد الحاجة إلى الکتابة)([17]) ويقول: ( أن اقرأ بلذة هذه الجملة، هذه الکلمة، أو هذه الحکاية، فلأنها کانت قد کتبت في لذة).([18])

يکاد لا يخلو أي بيت من هذه القصيدة/النص من الصور الفنية اللافتة، القائمة على معطيات حداثية، ونحن نحاول تقديم الأبرز منها، ففي اللوحة الثانية تتمظهر أمامنا بعض الصور منها: صورة طيف الحبيب، الذي يُقدم لنا من خلال الفعل المضارع الذي يفيد هنا الدخول في الزمن الآني، وهذا يحيل إلى فعل الرؤيا المستمر من قبل الرائي لاحظ البيت.([19])

وأرى طيفـک فيمـا أشتهي

 

في شدة الورد وفي بدر السماء

وإذا ما ماس غصن وانحنى
           

 

قلت جاءت تتهادى في حيـاء

 

فقد أسند فعل المضارع المفهوم الکامن في الزمن، وعلاقته بالمتکلم، فکلمة (أرى) کما سلف تعطي هذا البعد، ومنها کلمة (أشتهي) وهو تؤکيد على الرغبة المستمرة بالحبيبة من جهة والرغبة بحضورها من جهة أخرى، وليس أي حضور وإنما هو حضور مبهج معطر (في شذا الورد). وفي فضاء يمتلئ بالسعادة والحبور، في فضاء منير، کأن الحبيبة هي التي تضيئ عليه العالم، تماماً کما يضيء البدر عتمات الدجي، هذا البدر الذي تشبهه جمالاً وضياء.

هذه الصورة، أيضاً مرجعيتها، وإن کان الواقع للوهلة الأولى، لکنها مشحونة بمعطيات الخيال، صورة معدلة من الواقع وتضيف إليه، (فالطيف) لا يمکن رؤيته إلا في الخيال، وهي دعوى لاستحضار الحبيبة، هذا الطيف الجميل يتحرک في ذات الشاعر على مدار وجوده، ويظهر مع کل لمحة وحرکة أيضاً.إنها تشغل عليه عالمه، هذا ما يشي به السياق الباني للصورة هنا، فهو ابن الطبيعة، ويرکز على الجانب الجميل من هذه الطبيعة، نظراً لعلاقاته الجميلة مع الآخر (الحبيب)، والحضور هنا مع حرکة أي غصن والحرکة والانحناء بهذه الکيفية صفات جمالية للأنثى، وجاء التشبيه هنا مع غياب عناصر التشبيه المألوفة، ليحمل المتلقي على تجميع هذه العناصر، وبالتالي تکوين وجهة نظر، فهو بعد التأمل سيصل إلى أن المحبوبة تشبه الغصن المخضر/الغض، وفي الوقت نفسه يتخيل مدى التعلق والحاجة للمحبوب وحضوره.

ثم إن الغياب والبعد عن المحبوب يستثير في الشاعر الذکرى التي تستدعي الطيف وتلح عليه، ولهذا يفرز الغياب الصورة/ الطيف وتتداعى عوالم الشاعر الداخلية مجسدة الحنين المفعم بالألم والحزن، وتظهره کيفيات التعبير هنا بمسحة رومانسية، وشاعرنا واکب هذه المرحلة الرومانسية وشيوعها في العالم العربي، فالروح تصبح شرابا يسکب وتتحول إلى کلمات شعرية مفعمة بالأسى، فإذا کان هذا حال الروح، فکيف هو حال الجسد، فالبعد الجمالي هنا يتأسس على انفتاح اللغة الشعرية، وخلع أبواب القالبية والجاهزية لها حسب أدونيس.([20])

 هذه الاستعارة الباثة والمکونة للصورة، تشکل دالة سيميائية تبين حال الذات، ويعمق هذا التوجه حال الجسد المتعب الذي يعيش طوال الليل متأسياً على غربته عن المحبوب، حتى أن عالم الخارج، الطبيعة، المتمثلة بالنجوم تملّ سهر المضنى من العشق، ولليل في هذا النص دلالات تقيمها الکلمات وتصاحب الصورة، حيث الليل المفترض فيه احتضان السکينة والهدوء، إلا أنه هنا يصبح فضاء للتعب، ويتمثل ذلک عندما يقطع الشاعر الليل بأنات الإلحان الحزينة عبر الناي الذي يعزف الأسى، ويتحول الشقاء إلى وعاء يشرب به الخمر للرحيل عن هذا العالم، الذي لا يتصالح معه الشاعر.

ويعود الشاعر في نهاية هذه اللوحة لإطلاق، السؤال من جديد، لعدم تمکنه من الالتقاء بالمحبوبة على الحقيقة، فيصرخ عبر اللازمة السؤال: (أنت ماذا؟) الذي ينطوي فيه معنى الاستنکار، ومعنى غياب الحقيقة التي يود استحضارها. لکنه يبقى رغم هذا الإلحاح متعلقاً بحضورها، وتبقى هي لديه أثيرية، سامية، متعالية لا يحيط بها أي شيء، فهي فوق ما يسمو له مطمح الفکر وشعر الشعراء.

ويختتم النص بفعل العجز عن إعادة المحبوبة إلى عالم الحقيقة، بالتغني بالأيام السابقة، حتى لا يستشعر الفقد للأخر الحبيب وللزمن الجميل، وتبدأ اللوحة الأخيرة بالتأسي على الزمن الماضي، والدعاء لهذا الزمن بالحماية ويکمن في سياقات اللغة المثارة في هذه اللوحة، التحسر الذي يشي بنفسية لاقت من العشق الکثير، ولهذا تأتي الجمل بدفقات اخبارية تتسلط عليها الافعال الماضية، لاحظ الأبيات:

يا رعى الله عشيـات الحمـى

 

ورعـاک الله أيــام اللقـاء

يوم طلّقتُ الأسى من خافقـي

 

وحميا الحب ما جت في دمائي

ومزجت الشعر في جام الهوى

 

وربيع العمــر مخضل الرواء

يوم کنا نتهادى في الهوى

 

في نجاء من عيون الرقباء

ذکريات الحب ما أعذبها

 

إن في الحب لنا بعض العزاء

هل لهاتيک المنى عودة

 

فأغني: إن في الحب بقائي

إنها محاولة للقفز من اللحظة الآن، من خلال الکيفيات الاختيارية منها، على يد شاعر مجرب، في إنتاج صور ترفد ذاکرة المتلقين بتصورات جديدة، قائمة على استثمار عنصر الخيال، وهذا الملمح يعدُّ من السمات الحداثية البارزة حيث لم يعد المتلقي قارئاً سلبيا فقط، وإنما فاعلاً ومنتجاً لنص آخر على النص، لا سيما إذا کان النص حاضناً لأبعاد حافزة على التخييل، إذ يجد الشاعر في التخييل (سبيلاً لأن يبدع ويزيد، ويبتدئ في اختراع الصور ويعيد، وبأنه کالمستخرج من معدت لا ينتهي حسب أدونيس([21]). ويغدو النص أيضاً حافزاً وفق نظرية التلقي، فيکون النص (محاوراً نشطاً للقارئ، ويکون القارئ فاعلاً أساسياً في تنشيط النص للإيحاء بدلالات جديدة ومتغيرة عبر تاريخ تأويلاته)([22])، وتکون کيفيات التعبير المنتجة للسياقات الحاضنة لفنية الصورة، والانزياحات الترکيبية والتوليدية للجملة، والمولدة لشعرية النص، هي مثار الجدل لدى القراء، والباعثة على تدفق المزيد عن الاحتمالات المعنوية.

 

سردية القصيدة قصيدة السرد

ثمة تداخل واضح بين الأجناس الأدبية راح يتزايد عبر النصوص الحداثية، فلم يعد النثر، مثلاً، خالصاً من الشعرية ولا الشعر نقياً من عناصر النثرية، حيث الأساس هو (أدبية الأدب) في النص، (ولم يعد الخلط بين الأنواع الأدبية يحط من قيمة الکتابة الأدبية، لأن نظرية الأنواع تخلت منذ الرومانسية عن طريق الفصل بين الأنواع)([23])، بل أصبح التداخل مطلبا حديثاً، لکن ذلک لا يعني ترک الأمر على إطلاقه، فتسلط نص على الآخر، إن أسيئ استثماره سيؤدي إلى مزالق تثلب من فنية النص وتقوضة.

الملاحظ على کثير من النصوص الشعرية عند الأسد تداخل عناصر السرد القصصي مع السياقات الشعرية، وهذا ما يحيل إلى عوالم الشخصية/الراوي في النص، ويکثف من مدخلات عوالم النفس لدى المتکلمين في النص، ثم إن هذا الفعل يعطي للنص أفقاً ومساحة أرحب للحرکة، وبالتالي يغري يتمدد واحتلاله لفضاءات أرحب.

            إن العلاقة بين الشعر والنثر علاقة لافته في کثير من النصوص، وأکد هذه الحقيقة أکثر من ناقد، بحيث لا يمکن إغفال هذه المسألة، فهذا حسن ناظم يذهب إلى (أن ثمة ياساً أصاب بعض الکتاب في إيجاد الحدود الفاصلة بين منطقة الشعر ومنطقة النثر، ناتالي ساروت أراغون مثلاً، ولا سيما بين القصيدة والرواية)([24]).

            ويرى علي جعفر العلاق: أنه (لابد من القول إن هذا التداخل بين الشعر والفنون النثرية الأخرى، هو جزء من تداخل أعمق وأشمل بينه وبين هذه الفنون الزمانية والمکانية عموماً)([25]) وهذا ما أکده تودورف (T.Todorov) عند قوله:(ستتعلق کلمة شعرية في هذا النص بالأدب کله سواء أکان منظوماً أم لا)([26])، ويعني في مسيرته الکتابية عبر کتاب الشعرية.

            من هذه المنطلقات التي تبرر تداخل فعل السرد في النص الشعري، يمکن البحث في العلاقات التي تنتجها الاسلوبية القائمة على عنصر السرد في قصيدة الأسد؛ فقد شکل هذا المنحنى بعداً دلالياً لافتاً، وقد تراوح اختراق فعل السرد بين قصيدة وأخرى وسنمثل على هذا الاتجاه بقصيدة (يا أرض الأندلس): ومن الملامح السردية في هذا النص وجود:

  1. الديولوج.
  2. المنولوج الداخلي.
  3. سرد الوقائع اتکاءً على التاريخ/التراث على لسان الراوي.
  4. اعتماد المشهد تقتنيةً في النص.
  5. وجود حدث عام يتمحور عليه السرد، ووجود استحضار لأحداث جزئية تحکى بطريقة منطقية من حيث التسلسل.

فمن عناصر عالم الديولوج،  نجد في هذا النص الشعري توليداً لدلالات من خلال إقامة الحوار بين الراوي والصمت، ويجري الحديث لاستيطان المعاني الکامنة في نفسية الشاعر/ الراوي هنا، بغية تحفيز المتلقي على تمثلها واستحضارها:

لا الناس من أهلي ولا سيماؤهم

 

منهم ولا أوطارهم أو طاري

نقبت بينهم لعلي واجد

 

أحداً ينبئني عن الاخبار

فأجابنـــي الصمـــت الحزين منبئــــــاً

 

قومــي غدوا أثـــــراً مـــــن الآثـــــــــار

أما المنولوج الداخلي، فيتداخل منذ مفتتح القصيدة، حيث يحاور الراوي في النص ذاته قائلاً:

مالي أکتم لوعتي وأداري

 

وأهيم ملهوفاً بغير قرار

وأغالب الشوق الحبيس تجلداً

 

أخشى على نفسي انکشاف ستاري

أفما يحق لي التفجع والأسى

 

بلدي هنا وأنا غريب الدار

            ثم يخترق الراوي الزمنية الواقعية ويحفر عبر الماضي ليعيد سرده أمام المتلقين، على شکل قصة، مستنداً إلى جملة مفتلحية أساسية، تتمثل في جملة الاستفهام([27])، وإيقاع الزمن من العناصر الهامة في السرد القصصي لا سيما بالشخصية إذ (يصبح زمن التلفظ عنصر أدبياً، منذ اللحظة التي يتم فيها إدخاله في القصة، أي في الحالة التي يحدثنا فيها السارد عن سرده الخاص، عن الزمن الذي يتوفر لديه لکتابة هذا السرد وحکايته لنا)([28]) ويبدء السرد هنا من طرح السؤال:         

أين الذين قضيت عمري بينهم

 

مذ کنت طفلاً ناعم الأظفار

            ويأخذ السرد مداه في إعادة أيام الماضي وأحداثة وقصصه، حيث کانت الصحبة مع الآخرين، والعلاقات معهم، وما کان من أحداث. هذا السؤال ينفتح ليتدفق بعده سرد ويستغرق أحد عشر بيتا تحکي قصة الشاعر/الراوي مع قومه الذين يمثلون الماضي المجيد. ثم يعبر إلى لوحة قصصية مفعمة بالسرد بعد ابراز حضور المکان، ليعاود الانفتاح على ما يجري/أو کان يجري في هذا المکان الخاص المتعلق بالذاکرة الجمعية للراوي من جهة والمتلقين من جهة أخرى، الذي يشير إلى (الأندلس)،  لاحظ البيت: ([29])

فتراب هذي الأرض من أحبابکم

 

وثباتها طلع الدم المعطار

وهواؤها مضمخ بأريجکم

 

وترابها من يعرب ونزار

إني لأسمع صوتکم في خلوتي

 

وأراکم عن يميني ويساري

            فهو يستحضر ماضي، رجال الأندلس من خلال هؤلاء الذين يراهم في الفراق، فالمکان والزمان الذي يشغله الراوي، وما يشکله في ذاکرته من مرجعية يستثير في نفسه قصة الأمس، ليعادلها بقصة ضياع الأرض، في الواقع المحلي المعيشي.

            ويتضح ملمح الترکيز على الحدث، بوصفه عنصراً سردياً، منذ عنوان النص الذي بشکل دالة سيميائية تتغلغل في ثنايا النص من بدايته وحتى نهايته (يا أرض الأندلس)، وهذا النداء للبعيد/الغائب هو نداء للزمن الذي غيّب الأرض الأندلس وغيب أيامها وأحداثها، وهو نداء لما تمثلة الأرض من مرجعية عند الإنسان العربي، خاصة.

            ومن قراءة متأنية للقصيدة، مع قراءة النص الموازي لها، وهو التصدير هنا الذي يشکل تنويراً على النص، والذي يشير إلى مناسبة النص، زيارة الشاعر لإسبانيا بعد حرب 1967. هذا المعطي يشکل مفتاحاً مناسباً من مفاتيح أخرى لعبور النص ويتجلى الأمر أکثر عند الوقوف على ما يثيره النص من أحداث عبر الماضي والحاضر.

الماضي هنا يتفتح عن مکنوناته،

 

فهاهم الراحلون، الذين قضوا شهداء

            في سبيل فتح الاندلس والمحافظة على ترابها، نستحضر وجودهم وفعالياتهم عبر شعرية النص، لاحظ قوله: ([30])

يا من يعز عليّ أن ألقاهم

 

تحت الثرى متوسدي الأحجار

حييتم عني  بخير تحية

 

وکساکم الرحمن خير دثار

……

 

 

فتراب هذي الأرض من أجسادکم

 

وثباتها طلع الدم المعطار

            فهذا الحاضر يطلع عليه ويکشف زيفه، أمام معطيات الماضي المنتج والإيجابي، حتى بلغ الأمر بالشاعر أن يتخلى عن أهله وذوية الذين رضوا بالرحيل عن الاندلس، ويزداد الامر عمقاً عند استذکار الرحيل عن فلسطين بعد عام 1967، کما هو واضح في التصدير، فها هو يقول: ([31])

لا الناس أهلي ولا سيماؤهم

 

مهنم ولا أو طار هم أو طاري

تعبت بينهـــــــــم لعلـــــــــــي واجـــــــد

 

أحــداً ينيئنـــي عــــــن الاخبــــــــــــــار

            وهنالک استثمار للمشهدية في النص، حيث تبدي اللغة، والترکيبة المتوالدة الباثة لبعض الصور الفنية صوراً مشهدية يمکن التقاطها، والوقوف على دلالاتها من النص، ومن ذلک: حرکة التنقيب الواردة في البيت السابق: ( نقبت بينهم)، إذ يتمثل المتلقي مشهد الراوي وهو ينقب ويفتن بين الناس باحثاً عن شخص يزوده بالأخبار المنتجة، وفي بيت آخر يقول: ([32])

ومشيت خلفهم أتابع خطوهم

 

لم ألق بعدهم عصا التسيار

            وهنا أيضاً يمکن أن يوضح الراوي  مشهد المشي بين المجموع لأحدهم وهو يتابع الخطوات باحثاً عن عصا التسيار. ثم يتبعه بمشهد قائم على استثمار عنصر الخيال، لکنه مشهد متخيل من خلال البيت:       

رافقتهم عبر العصور فکان لي

 

متن الخيال مطية الأسفار

            والآن يمکننا القول: إن الشحنة السردية/القصصية في الشعر إذا لم يسعفها عناصر الشعرية في النص، وربما غيرها، ونهضت بالبعد القيمي المتوقع کمونه في النص، سيکون ذلک مزلقاً يثلب شعرية النص ويدخله في الاجناس الآخرى.

            إن ما يلفت الانتباه، أن الشاعر في مثل هذه النصوص، رغم أنه اتکأ على السردية إلا أنه بفي متمسکاً، عند کثير من مفاصل نصوصه، بالعناصر الضرورية لإقامة الشعرية في قصائده، ومن ذلک استثماره لأبعاد عدة، نذکر منها: التناص، الخيال، ترکيبة الجملة البنية الداخلية للجملة، إضافة إلى الايقاع الداخلي والخارجي.



([1])  إيکو  (امبرتو) واخرون: في أصول الخطاب النقدي الجديد، ترجمة المديني، بغداد دار الشؤون الثقافية، 1987، ص82.

([2])  المصدر السابق، ص82.

([3])    المصلح (أحمد) ناصر الدين ناقداً وشاعراً، عمان منشورات وزارة الثقافة، 2000، ص45.

([4])    المصدر السابق ص 91.

([5])  حليفي (شعيب)، النص الموازي للروايه، استراتيجية العنوان کلية الکرمل، ع16، 1992، ص84.

([6]) درايدا (جاک). الکتابة والاختلاف، ترجمة کاظم جهاد، الدار البضاء، دار توبقال، 1988 ص49.

([7]) کما ذهب إلى ذلک الباحث أحمد المصلح في کتابة ناصر الدين الاسد تاقداً وشاعراً، ص51.

([8])  أنجينو (مارک)، مفهوم التناص، الخطاب النقدي الجديد، ترجمة أحمد المديني خمس الجناية (في أصول الخطاب النقدي)، بغداد، دار الشؤون، 1988، ص103.

([9]) ياکسيون (قضايا الشعرية)، ترجمة محمد الولي ومبارک حنون، الدار البيضاء، دار توبقال، 1998،ص79.

([10])   ياکسيون (رومان)، قضايا الشعرية، ص79.

([11])  ياکسيون (رومان)، قضايا الشعرية، ص33.

([12])  عيد (رجاء) لغة الشعر، قراءة في الشعر العربي الحديث، الاسکندرية، دار المعارف، 1985 ص114.

([13])  عيد (رجاء) لغة الشعر، قراءة في الشعر العربي الحديث، ص93.

([14])  المصلح (أحمد)، ناصر الدين الاسد ناقداً وشاعراً، ص22.

([15])   کوهن (جان)/ بنية اللغة الشعرية، تر محمد الولي ومبارک حنون، الدار البيضاء، 1986، 113 .

([16])   العلاق (علي جعفر) في حداثة النص الشعري، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1990، ص16.

([17])   بارت (رولان) لذة النص، ترجمة فؤاد صفاء والحسين سحبانه، الدار البيضاء، دار توبقال، 1988، ص14

([18])   المصدر السابق، ص14

([19]) المصلح (أحمد)، ناصر الدين الأسد ناقداً وشاعراً، ص99.

([20])  أدونيس (علي أحمد سعيد)، الثابت والمتحول، ج3، بيروت، دار العودة، 1982، ص17.

([21])   أدونيس (علي احمد سعيد)، الثابت والمتحول – صدمة الحداثة – ج3 – بيروت، دار العودة، 1983، ص287.

([22])  ناظم (حسن)، مفاهيم الشعرية، الدار البيضاء، المرکز الثقافي العربي، 1994، ص134.      

 

([23])   يحياوي (رشيد) مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية، الدار البيضاء، مطابع أفريقيا الشرق، 1991 ص5.

([24])  ناظم (حسن)، مفاهيم الشعرية ص83.  

([25])  العلاق (علي جعفر)، الدلالة المرئية، دار الشرق، 2002، ص151.

([26])  تود روف (تزفتيان)، الشعرية ط2، الدار البيضاء، دار توبقال، 1990، ص24.

([27])   المصلح (أحمد)، ناصر الدين الاسد ناقداً وشاعراً ص102.

([28])  تودوروف (تزفتيان) وأخرون، طرائق تحليل السرد الأدبي، ترجمة الحسين سحبان، المغرب، الرباط، منشورات اتحاد کتاب المغرب، 1992، ص57.

([29])   تودوروف (تزفتيان) وأخرون، طرائق تحليل السرد الأدبي، ص102/103

([30])   المصلح (احمد)، ناصر الدين الاسد ناقداً وشاعراً، ص101.

([31])  المصدر السابق ص101.

([32])  المصدر السابق 

المصادر والمراجع
1-       أدونيس ( على أحمد سعيد ) ، الثابت والمتحول ، ج3 ، بيروت ، دار العودة ، 1983.
2-       انجينو ( مارک) ، مفهوم التناص فى أصول الخطاب النقدى الجديد ، ترجمة أحمد المدينى بغداد ، دار الشؤون الثقافية ، 1987 .
3-       إيکو ( امبرتو ) وآخرون فى أصول الخطاب النقدى الجدي ، ترجمة أحمد المدينى ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية ، 1987 .
4-       بارت ( رولان) لذه النص ، ترجمة فؤاد صفاء والحسين سحبان ، الدار البيضاء ، دار توبقال ، 1988 .
5-       تودوروف ( تزفتيان ) ، الشعرية ، ط2 ، الدار البيضاء ، دار توبقال ، 1990 .
6-    تودوروف ( تزفتيان) وآخرون ، طرائق تحليل السرد الادبى ، ترجمة الحسين سحبان ، المغرب ، الرباط ، منشورات اتحاد الکتاب ، 1992 .
7-       حليفى ( شعيب) النص الموزاى للراوى ، استراتجية العنوان ،/ مجلة الکرمل ، عدد 216 ، 1992 .
8-       دريدا ( جاک) الکتابة الاختلاف ، ترجمة کاظم جهاد ، الدار البضاء ، دار توبقال ، 1988 .
9-       العلاق ( على جعفر ) فى حداثة النص الشعرى ، بغداد ، دار الشؤون التقافية ،1990 .
10-  العلاقة ( على جعفر ) ، الدلالة المرئية ، عمان ، دار الشرق ، 2002 .
11-  عيد ( رجاء ) لغة الشعر ، قراءة فى الشعر العربى الحديث ، الاسکندرية ، دار المعارف ، 1985 .
12-  کوهن ( جان) بنية اللغة الشعرية ، المعرب ، الدار البيضاء ، دار توبقال ، 1986.
13-  المصلح ( أحمد ) ، ناصر الدين الأسد ناقداً وشاعراً ، عمان / منشورات وزارة الثقافة ، 2000 .
14-  ناظم ( حسن ) ، مفاهيم الشعرية ، الدار البيضاء ، المرکز الثقافى العربى 1994 .
15-  ياکبسون ( رومان) ، قضايا الشعرية ، ترجمة محمد الولى ومبارک حنون ، الدار البيضاء ، 1998 .
16-  يحياوى ( رشيد) ، مقدمات فى نظرية الأنواع الأدبية ، الدار البيضاء ، مطابع أفريقيا الشرق ، 1991 .