آيات الأمهات في القرآن الکريم دراسة بلاغية 1- في ضوء علم المعاني. 2- في ضوء علم البيان. 3- في ضوء علم البديع

نوع المستند : مقالات علمیة محکمة

المؤلف

جامعة ام القري طالبة دکتوراة بجامعة ام القري


باب علم المعاني

تعريفه

علم المعاني هو تلک الأصول والقواعد التي يُعرف بها کيفيّة مطابقة الکلام لمقتضي الحال، بحيث يکون وفق الغرض الذي سيق له.

موضوعه:

دراسة خصائص التراکيب اللغوية من حيث دلالتها على المعنى.

وغايته:

اختيار الترکيب اللغوي المناسب للموقف، بحيث يدلنا على الطريقة  السليمة لجعل الصورة اللفظية أقرب ما تکون دلالة على الفکرة التي تجول بالذهن.

ومؤسس وواضع هذا العلم هو الشيخ عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471هـ .   

وينحصر علم المعاني في ثمانية أبواب:

1 ـ باب الذکر والحذف:

أ ـ ذکر المسند والمسند إليه. 

ب ـ حذف المسند والمسند إليه.

ج ـ حذف المفعول معه.

د ـ تعريف المسند وتنکيره.                   

هـ ـ تعريف المسند وتنکيره.    

2ـ القصر وأنواعه.

3ـ التقديم والتأخير:

ـ تقديم المسند الاسمي على المسند إليه.

ـ تقديم المسند الفعلي على المسند إليه.

ـ تقديم المسند إليه على المسند الفعلي.

ـ تقديم معمولات الفعل.

4ـ الوصل والفصل:                    

أ ـ الوصل.

ب ـ الفصل : کمال الانقطاع.

ج ـ الفصل: کمال الاتصال وشبهه.                

5ـ الإيجاز والإطناب والمساواة:

ـ إيجاز القِصَر.

ـ إيجاز الحذف.                      

ـ الإطناب.

ـ المساواة.

هذه هي أبرز وأهم أبواب علم المعاني، والواقع أن هذا العمل دقيق وواسع في دراسته للخصائص والتراکيب اللغوية.

من هنا سنلقي الضوء على بعض الآيات الکريمات التي ظهرت فيها واتضحت فيها بعض هذه الأبواب بوضوح، والتي بانت من خلال دقة ترکيبها، ودقائق خصائصها اللّغويّة، وطريقة تنظيمها. وستشمل الدراسة بإذن الله تعالى نماذج منها کالتالي:

ذکر المسند والمسند إليه وحذفهما:                                                                                             

وأغلب الآيات اشتملت على حذف المسند إليه. قال تعالى: ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَکَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾(الذاريات: 29) في قصة زوجة إبراهيم عليه السلام.

فقد حُذف المسند إليه هنا بدلالة القرائن عليه، وقد فُهم من سياق الجملة

والمعنى: أي أنا عجوز عقيم.

فذکر المسند إليه هنا زيادة دلّت عليه القرائن، وحذفه أبلغ.          

وأيضاَ حذف المسند إليه في قوله تعالى: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَکَ﴾(النساء: 11)، أي:

ثلثا ما ترک الميت، فقد أُتِي بالمسند إليه مضمرا، لأن قرينة الحال دلّت عليه.

ومن لطائف الحذف أيضاً في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَکَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ ﴾(آل عمران: 35). ((فَتَقَبَّلْ مِنِّي )): أي تقبل مني نذري ما في بطني. والسّر البلاغي في ذلک الإيجاز والاختصار، ولدلالة القرائن عليه، لذا حذف المسند. 

 وقد عُرّف المسند والمسند إليه في مواضع عديدة لأسرار بلاغية وأغراض. من ذلک قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّکَرُ کَالْأُنثَىٰ﴾ (آل عمران: 36). فقد ذُکر المسند إليه هنا، وقد عُرّف بأل العهدية، والسّرّ في تعريفه لتقدّم ذکره تلويحا. فالذّکر وإن لم يکن مسبوقا   

صريحا ، إلا أنه اشار إليه سبحانه في قوله (ما) في قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَکَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾(آل عمران: 35).

التقديم والتأخير:                                                                                                                       

قال الجرجاني في هذا الباب: ((هو باب کثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترّ لک عن بديعة، ويُفضي بک إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرا يروقک مَسْمَعُه، ويلطف لديک موقعُه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقک  ولطف عندک، أن قُدِّم فيه شيء، وحُوِّل اللّفظ عن مکان إلى مکان))([1])

ومن الآيات الکريمات التي ظهر فيها هذا الباب من أبواب علم المعاني:

أ ـ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ﴾
( المائدة: 116).

قُدّم المسند إليه على الخير الفعلي في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلْتَ﴾، وهذا يدل على أن  الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره، مع أن الخبر حاصل لا محالة.

فالمراد من هذه الآية تقريع النصارى، فالله سبحانه يعلم حقا أن عيسى لم يقل ذلک، ولکن أراد إعلان کذب من کفر من النصارى.

فالسؤال عندما أُلقي على عيسى تعريضا بالإرهاب والوعيد والعقوبة التي ستقع على من قال بأن الله عيسى وأمه([2]).                   9

ب ـ في قصة أم عيسى العذراء مريم، قال تعالى: ﴿کُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَکَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾

قدّم الظرف للاهتمام به، وکلمة (( کل )) ظرف، والزمان محذوف، و ((ما)) هنا مصدرية، والعامل في ذلک قوله: ((وجد))، أي : کل زمان دخوله عليها وُجد عندها رزق([3]) .

ج ـ وأيضاً منه قوله تعالى في خطابه لمريم من سورة ( آل عمران: 43):  

﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّکِ وَاسْجُدِي وَارْکَعِي مَعَ الرَّاکِعِينَ ﴾.

نلحظ التقديم والتأخير في قوله : ﴿ وَاسْجُدِي وَارْکَعِي ﴾.فقدم قدم السجود على الرکوع، وذلک للأسباب التالية:                   

أ ـ إما لکون الترتيب في شريعتهم کذلک.

ب ـ وإما لکون السجود أفضل أرکان الصلاة، وأقصى مراتب الخضوع ([4])  .

الخاص الذي صار عاما والعکس:                

وقد کثر هذا الاسلوب في آيات الأمهات ، من ذلک:

أ ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَيْکُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِکُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾(الإنعام: 151).                  

أي : تقدموا. وهذا من الخاصّ الذي صار عاما، وأصله أن يقوله من کان في مکان عال لمن هو أسفل منه، وبعد ذلک کُثر واتُّسِع فيه حتى عمّ ([5])  .

ب ـ من باب عطف العام على الخاص قوله تعالى: ﴿وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾  

 (المائدة: 17)، وقد عُطف هذا العام على الخاص من أجل أن يکون قد ذکرا مرّتين،

مردة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام، وذلک على سبل التوکيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإدارة فيها، وليعلم أنها من جنس الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية ([6])  .

ج ـ ومن ذکر العام بعد الخاص: ﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾( نوح:28).

فقد دعا نوح عليه السلام بالمغفرة لنفسه، ثم لمن هم أقرب إليه ، لوالديه، ثم لمن دخل بيته من أقربائه المؤمنين، ثم أصبح الدعاء عاما للمؤمنين جميعا في کل مکان.

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾( النساء: 171).

الخطاب موجه لمن اعتقد أن لله شريکا في إلهيته سبحانه وتعالى، وخاصة النصارى الذين اعتقدوا انّ المسيح عيسى ابن مريم إله. وهذا القًَصْر إضافيّ إفراد،

إذا اعتقد المخاطب الشرکة له ، وردَّا على من اعتقد أنّ الله ثالث ثلاثة.

والقصر إضافي باعتبار المقصور موصوفا على صفة، باعتبار المخاطب إفراد

في الإيجاز:

قال تعالى: ﴿وَلَمْ أَکُ بَغِيًّا﴾(مريم: 20).

هنا إيجاز الحذف، ويکون بحذف شيء من العبارة لا يخلّ بالفهم، مع قرينة تعيين المحذوف، والمحذوف هنا حرف أصله: ولم أکنْ.

أسلوب التأکيد:

وقد کثر هذا الأسلوب في الآيات المدروسة في هذا البحث، فکل قضية يعرض لها السياق من القضايا الشائعة الشائکة يختم الحديث عنها بأسلوب تأکيد يتأکد فيه المعنى المقصود، ومثال ذلک: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن کَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾( النساء: 36)، حيث يؤکّد سبحانه عدم حبه لکل من اختال بنفسه وفخر بها، واشتغل بذلک عن عبادة ربه، وکل ما أمره به من إحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساکين.

لقد اجتمع هنا أسلوب التأکيد مع النفي دليلا على عدم حبّه عزّ وجلّ لکل ّ من اتصف بهاتين الصفتين.

التنکير:

قال تعالى : ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْکَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾(طه:39).     

فقد نکّر لفظ المحبة، لما في تنکيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية.

والمعنى: محبة عظيمة کائنة مني، قد زرعتها في القلوب، فکل من رآک أحبک بحيث لا يصبر عنک ([7])  .

نماذج تحليلية:

أ ـ قال تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾(إبراهيم:41).

((رَبَّنَا)): أسلوب نداء ودعاء، وقد أُکِّد هذا الدعاء بفعل الأمر ((اغْفِرْ)) المراد منه التّضرّع لله والإلحاح بطلب المغفرة، وهذه المغفرة التي يطلبها إبراهيم عليه السلام ويلحّ في طلبها لمن؟!

  • ·   اولاً: له هو ذاته.
  • ·   ثانيا: ينتقل إلى دائرة أوسع، وهي والديه ﴿ وَلِوَالِدَيَّ ﴾
  • ·   ثالثا: تتسع هذه الدائرة ويطلب المغفرة ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

فبدأ طلب رحمة ربه ومغفرته مُنطلقا من ذاته إلى أمتّه التي أُرسل لها.  

ولکن متى وما زمن هذه المغفرة التي حدّدها إبراهيم عليه السلام؟ إنها ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾، أيک يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرّجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها، ونحوه قولهم: ترجّلت الشمس، إذا أشرقت وثبت ضوؤها، کأنها قامت على رجل ([8])  .

وقد أُسند الحساب إلى القيام إسنادا مجازيا.

ولکن إذا قيل : لماذا جاء ذکر الحساب، ولم يکن القول مثلا: يوم تقوم السّاعة، أو غير هذا اللفظ من أسماء يوم القيامة؟

قيل : الحساب: استعمال العدد، يُقال: حسبتُ أحسبُ حسابا وحسبانا. قال تعالى: ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾(الإسراء: 12) .   

وقال تعالى: ﴿وَاللَّـهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(البقرة:202). أي : حسابه واقعٌ لا محالة.

وکلُّ واقع فهو سريعٌ، وسرعة حسابه سبحانه وتعالى أنه لا يشغله حسابُ واحد عن محاسبة الآخر، لأنه سبحانه لا يشغله سمع عن سمع ، ولا شأن عن شأن([9])

والحساب قد يقع ويحدث للإنسان في الدنيا قبل الآخرة، فإنه سبحانه قد يُعجل حساب عباده في الدّنيا قبل الآخرة.

لذلک خاف إبراهيم عليه السلام من ذلک، وهو مدرک أن ربّه سريع الحساب، ﴿وَاللَّـهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾فتضرّع طالبا من ربه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين. والله أعلم

ب ـ قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ (هود:71).

حذف المفعول هنا، وتقديره: (سرورا)، والغرض من حذفه أنه هنا معلوم، فالضحک يستدعي السرور ويناسبه.  

وأيضاً من أجل لفت انتباه السامع والقارئ لفتاً قوياً إلى إثبات الفعل للفاعل بحيث تتّجه الأذهان إليه، وتنحصر الأفکار فيه، وللإيجاز والاختصار وإثارة الانتباه إلى الفعل الذي هو ضحک زوج إبراهيم عليه السلام، واطمئنانها للضّيوف. کذلک

نلحظ أن الفعل ﴿فَبَشَّرْنَاهَا﴾ قد عُطف على الفعل ((فَضَحِکَتْ)) بحرف العطف الفاء الذي يفيد التعقيب.

فبعد ضحکها بُشرت بغلام.

وتقديم الضّحک على البشرى دليل قاطع على أن الضحک کان قبل البشرى، ولا توجد علاقة بين ضحکها وبشراها.

فبعد ضحکت وارتاحت نفسها للضيوف، وذهب الخوف منها، بشروها بالولادة وهي عجوز. والله أعلم.

ج ـ قال تعالى : ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنکُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ﴾(المجادلة:2).

يتحدث سبحانه وتعالى في هذه الآية عن قضية شاعت قديما، وهي: الظهار، بمعنى إنزال الزوجات منزلة الأمهات في المعاشرة والتحريم، فيضع سبحانه الحدودالفاصلة لهذه القضية هنا.

والآية نزلت في المجادلة التي کانت تحاور وتجادل الرسول عليه الصلاة والسلام.

ونلحظ أن الخبر في الآية أتى فعلا مضارعا ((يُظَاهِرُونَ))، وهو يفيد التجدد والاستمرار، وقد عبّرت الآية الکريمة بالفعل المضارع، وليس بالفعل الماضي، لکي تخرج القضية من دائرة الأمر الخاص، وهو حيث کانت القضية خاصة بالمرأة وزوجها، إلى دائرة العموم، بحيث تشمل جميع من ظاهر ويظاهر مستقبلا زوجته.

د ـ ﴿وَاللَّـهُ أَخْرَجَکُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِکُمْ﴾ ( النحل:78).

هناک سؤال: لماذا عبَّرسبحانه هنا بالفعل الماضي ((أَخْرَجَکُم)) مع إنّه بالإمکان أن يکون التعبير بالمضارع: يخرجکم؟! فالمضارع يفيد الاستمرار والتجدد، وسبحانهما زال إلى يومنا هذا يخرجنا من بطون أمهاتنا، وإلى أن تقوم الساعة!!

الجواب، والله أعلم، أن الله سبحانه يذکر هنا النشأة الأولى، وهي إخراجنا من بطون أمهاتنا غير عالمين شيئا، تنبيها على وقوع النشأة الآخرة ([10])  .

ثم إن الفعل الماضي قد جاء من ذي قبل. قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا عَبْدًا﴾ (النحل:75)، إن تکرار مجيء صيغة الماضي نوع من التناسق بين الآيات الکريمات والانسجام.

والله أعلم.

ثانياً: علم البيان

تعريفه:

البيان في اللغة: الکشف والإيضاح.

وفي الاصطلاح: أصولٌُ وقواعدُ يعرف بها إيراد المعنى الواحد بطرق يختلف بعضُها عن بعض في وضوح الدلالة على نفس ذلک المعنى، ولا بُدَّ من اعتبار المطابقة لمقتضي الحال دائما.    

وأبواب علم البيان:

1ـ فن التشبيه.

2ـ المجاز.    

3ـ الاستعارة.

4ـ الکناية.

نماذج من علم البيان:

1ـ التشبيه البليغ:

في قوله تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب:6).

وهو تشبيه مرسل، حيث فيه تشبيه لزوجات الرسول الکريم بالأمهات في بعض الأحکام، وهي: وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نکاحهن، ولذلک قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (لسنا أمهات النساء)، تعني أنهنّ إنّما کنّ أمّهات الرّجال، لکونهن محرمات عليهم کتحريم أمهاتهم، ولهذا کان لا بدّ من تقدير أداة التشبيه فيه ([11]) 

2ـ التمثيل:

مثال ذلک قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ کَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾(التحريم:10).

هنا وقع التمثيل، حيث مثل الله عزّ وجل حال الکفار في أنهم يعاقبون على کفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم، من غير إبقاء ولا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم ما کان بينهم وبين المؤمنين من نسب أو صلة صهر، لأن عداوتهم لهم وکفرهم بالله ورسوله قطع العلائق بينهم وبتّ الوُصَل، وجعلهم بمثابة الأجانب عنه، وإن کان المؤمن الذي يتصل به الکافر نبيّا من أنبياء الله، کحال امرأة نوع وامرأة لوط عندما نافقتا وخانتا الرسولين، لم يغنِ الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من صلة الزواج، إغناء ما من عذاب الله ([12]) 

3 ـ الاستعارة التمثيلية:

في قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾(طه: 39).

تمثيل لشدة الرعاية، وفرط الحفظ والکلاءة، بمن يصنع بمرأى من الناظر، لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر إليه، فمثّل سبحانه وتعالى لذلک بمن يصنع على عين الآخر ([13]) .  

4 ـ الاستعارة المکنية:

ظهر لنا ذلک في قوله تعالى: ﴿انظُرْ کَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ﴾(المائدة:75).

وقد اسُتعمل الأمر بالنّظر في الأمر بالعلم لتشبيه العالم بالرأي والعلمِ بالرؤية في الوضوح والجلاء، وأيضا أفادت الآية معنى التعجب من حال الذين ادّعوا الإلهية لعيسى، واکتُسب هذا التعجب من أسلوب الاستئناف والاستفهام.

أما الاستعارة المکنيّة فقد برزت عندما استعيرت الآيات، وهي جمع آية، وتعني العلامة، للحجّة والبرهان، لشبهه بالمکان المطلوب عن طريق الاستعارة المکنية، إثبات الآيات له تخييل، شبّهت بآيات الطريق الدّالة على المکان المطلوب ([14])  .

5ـ المجاز:

تمثّل ذلک في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾( آل عمران:37)

المجاز في لفظ ((أَنبَتَهَا)) المراد منه تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها، فهو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات ([15])  .

 

ثالثا: علم البديع

تعريفه:

وهو علم يعرف به وجوه تحسين الکلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة ([16])  .

ووجوه التحسين ضربان:

1ـ ضربٌ يرجع إلى المعنى (معنوية)، منه: المطابقة، والمقابلة، ومراعاة النظير، والمشاکلة، وإيهام التناسب، والتورية، ..... إلخ.

ويؤکد عبد القاهر رجوع التحسين في بعض الوجوه المذکورة في المحسنات البديعية المعنوية إلى المعنى فيقول: ((وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع فلا شبهة أن الحسن والقبح لا يعترض الکلام بهما إلا من جهة المعاني الخاصة، من غير أن يکون للألفاظ في ذلک نصيب))([17])  .

2ـ ضربٌ يرجعُ إلى اللفظ، ومنه: الجناس بين اللفظين، والسجع، والموازنة، والقلب، والتشريع، ولزوم ما لا يلزم ([18])  .

نماذج من علم البديع:

1ـ فن الاحتراس:

قال تعالى: ﴿ذِکْرُ رَحْمَتِ رَبِّکَ عَبْدَهُ زَکَرِيَّا ﴿٢ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾(مريم:2-3).

الاحتراس في قوله: (نِدَاءً خَفِيًّا). والاحتراس: عبارة عن أن يأتي المتکلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إبهام، فيفطن لذلک حال العمل، فيأتي في صلب بما يخلصه من ذلک کله.

يقول أسامة بن منقذ: (( اعلم أن الاحتراس هو أن يکون على الشاعر طعنٌ، فيحترس منه...))([19])  .

فکلمة ((خَفِيًّا)) في الآية أتت مراعاة لسنّة الله في إخفاء دعوته، لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان، فکان الأولى أن يحترس مما يوهم الرياء أمام الناس ([20])  .

2ـ الالتفات إلى الغيبة:

في قوله تعالى: ﴿وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾(آل عمران:36) التفات من الخطاب إلى الغيبة إظهار لغاية الإجلال ([21])  .


3ـ الجناس:

أ ـ الجناس الناقص:

في قوله تعالى: ﴿ مَا کَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ کُن فَيَکُونُ﴾(مريم:35) جناس ناقص بين قوله ((کُن))، وقوله: ((فَيَکُونُ)).

ب ـ الجناس المغاير:

(( وهو أن تکون الکلمتان اسماً وفعلا ([22])  ))

في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَکَفَّلَهَا زَکَرِيَّا ۖ کُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَکَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَکِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(آل عمران:37).

في قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ وفي قوله : ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، وقوله: ﴿رِزْقًا﴾، و﴿يَرْزُقُ﴾([23])  .

4ـ الطباق:

قال تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(مريم:33). الطباق بين قوله: ﴿وُلِدتُّ﴾، و﴿أَمُوتُ﴾.

5ـ فن الإبهام:

في قوله تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّکَ مَا يُوحَىٰ﴾(طه:38). الإبهام في قوله: ﴿مَا يُوحَىٰ﴾

6ـ التوشيح:

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران:33).

في الآية فن التوشيح، وهو کما يقول قدامة بن جعفر في ((نقد الشعر)): أن يکون في أول الکلام معنى إذا اصطفاء المذکورين في الآية يعلم منه المفاضلة، لأن المذکورين صنف مندرج في العالمين ([24])  ، ويقول ابن منقذ: ((اعلمأن التوشيح هو أن تريد الشيء فتعبر عنه عبارة حسنة، وإن کانت أطول منه))([25])

7ـ التعريف:

في قوله تعالى: ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَکُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾(مريم:23).

التعريف في قوله: ﴿النَّخْلَةِ﴾، والتعريف هنا لا يخلو: إما أن يکون من تعريف الأسماء الغالبة، کتعريف النجم، والصعق، کأن تلک الصحراء کان فيها جذع نخلة مُتعاَلم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة، فُهم من ذلک دون غيره من جذوع النخل.

وإما أن يکون تعريف الجنس، أي: جذع ذه الشجرة خاصة، کأنّ الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها من الرطب ([26])  .

الخاتمة

الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على صاحب أکمل الرسالات r . وبعد:

هکذا انتهت رحلتنا في المسير بين ضفاف آيات الأمهات في القرآن الکريم، والتدبر في روائع نظمها ودقائق أسرارها.

وبالرغم من ذلک ما زلت أشعر أنني بحاجة أکثر إلى السير في هذه الرحلة، لأرتشف أکثر من نفح بيان هذه الآيات الکريمات.

إن من أبرز النتائج التي تراءت لي بعد هذه الرحلة المبارکة ما يلي:

أولا: أن لفظ ((أم)) في القرآن الکريم لم يرد فقط بمعناه الحقيقي کما في قوله تعالى: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾(النساء:11)، إنما ورد أيضاً بمعنى آخر مجازي کما في قوله تعالى: ﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾(القارعة:9).

ثانياً: أن القرآن الکريم فرّق بين ((الأم)) و((الوالدة))، حيث إن لفظ ((والدة)) أطلق على المرأة التي تنجب الطفل فقط. قال سبحانه: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ کَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(البقرة:233).

أمّا لفظ ((الأم)) فقد أطلق على الأصل الکريم الذي يتشرف الولد به ويفخر بانتسابه.

فهذا ابن مريم عيسى عليه السلام عندما تحث عن البر والإکرام ذکر وصف (الوالدة)، فجاء على لسانه: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾(مريم:32).

وعندما ذکر القرآن عيسى وصفات أمه مريم عليها السلام، أطلق عليها لفظ ((أم)) فقال جلّ وعلا: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾(المائدة:75).

وعندما أراد سبحانه أن يبين لنا مشاعر الحنان الکامنة في  ((الأم)) والشفقة التي تحملها لأولادها عبّر عنها بلفظ ((الأم)) فقال جلّ وعلا: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا﴾ (القصص:10).

أضف إلى ذلک النماذج النيّرة التي ذکرها جلّ وعلا للأمهات المؤمنات، والأمومة الحقة التي تبني ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.

وأخيرا فإن هذه الدراسة دراسة بيانية بالوقوف عند ضفاف معانيها ومواطن إعجاز ألفاظها في دلالتها على المعاني.

وانبثق هذا النور من محبتي لکتاب ربّي جلّ وعلا إلهي وإلهکم. سبحانه لا إله إلا هو.

وختاما: المجتهد لا يخلو من الأجر أصاب أم اخطأ. والله ولي التوفيق.



[1]))دلائل الإعجاز 106.

[2]))ابن عاشور 5/270.

([3])فتح القدير 1/335.

([4])الجدول 3، 4/178.

([5])فتح القدير 2/177,176.

([6])البحر المحيط 3/465.

([7])الجدول 15،16/369..

([8])الکشاف 2/306.

([9])لسان العرب (ح س ب).

([10])البحر المحيط 5/505.

([11])الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه 21/131. 

([12])السابق 29/10.

([13])السابق 29/370.

([14])ابن عاشور 5/175،176.

([15])الجدول في إعراب القرآن 3/168

([16])الإيضاح في علوم البلاغة للقزوييني 6/4.

([17])السابق6/5.

([18])السابق 6/90-115.

([19])البديع في البديع 90.

([20])الجدول في إعراب القرآن15،16/269.

([21])السابق3،4/164.

([22])البديع في البديع26.

([23])الجدول3،4/168. 

([24])الجدول3،4/161.

([25])البديع في البديع136.

([26])السابق:ص29.

فهرس المصادر والمراجع
کتب التفسير:
·   أصول البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. عالم الکتب،بيروت.
·   البحر المحيط. لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الکتب العلمية، بيروت ـ لبنان. الطبعة الأولى، 1413هـ ـ 1993م.
·   تأملات في سورة آل عمران. د/حسن محمد باجودة. الطبعة الأولى، 1413هـ ـ1992م. دار البلاد ـ جدة.
·   تأملات في سورة مريم. د/ حسن محمد باجودة. دار الاعتصام.
·   التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور التونسي. للإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. الطبعة الأولى، 1420هـ ـ 2000م، مؤسسة التاريخ.
·تفسير الطبري من کتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: د/بشار عواد معروف، عصام فارس الحرستاني، الطبعة الأولى،1994، دار الفکر، دمشق.
·   تفسير القرآن الکريم. ابن کثير، الطبعة الأولى،1408هـ، بيروت، دار الفکر.
·   الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه. تصنيف: محمود صافي. دار الرشيد، دمشق ـ بيروت، الطبعة الرابعة.
·   سلسلة التفسير البسيط للقرآن الکريم. د/حسن محمد باجودة. الطبعة الأولى، 1403هـ ـ 1420هـ ـ 1983م ـ 2004م. منشورات وزارة الشؤون الإسلامية.
·   فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية من علم التفسير. تأليف: محمد بن علي بن محمد الشوکاني.
·   في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، الطبعة الخامسة عشر، 1408هـ ـ 1988م.
·   الکشاف عن حقائق التنزيل في عيون الأقاويل ووجوه التأويل. لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي. دار المعرفة، بيروت ـ لبنان.
·المحرر الوجيز في تفسير الکتاب العزيز. للقاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي. تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد. دار الکتب العلمية، بيروت ـ لبنان.
·   معالم التنزيل (تفسير البغوي). أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، الطبعة الأولى، 1409هـ، الرياض، دار طيبة للنشر والتوزيع.
·   نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. للإمام برهان الدين أبي إبراهيم بن عمر البقاعي. دار الکتب العلمية ، بيروت ـ لبنان. الطبعة الأولى، 1415هـ ـ 1995م.
·   الوجوه والنظائر، أبو عبدالله الحسين بن محمد الدامغاني، تحقيق: محمد حسن أبو العزم الزفيتي، القاهرة، 1412هـ 1992م.
کتب أخرى:
·   الإتقان في علوم القرآن، القاضي أبو بکر الباقلاني، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان.
·   أساس البلاغة، للزمخشري.