ابن قيس الرقيات والأسماء - قراءة نقدية في ضوء الأنساق الثقافية

نوع المستند : مقالات علمیة محکمة

المؤلف

أستاذ مشارک - کلية الآداب - جامعة الطائف


مقدمــــة

الحمد الله وحده والصلاة على من لا نبي بعده سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

يتسع شعر ابن قيس الرقيات لمقاربته بطرق مختلفة :أسلوبية , تاريخية,  نفسية, رمزيه ... الخ ( 1 ) لکننا في هذه الدراسة لن نفعل شيئا من ذلک, بل نسعى إلى تحقيق هدف آخر , يتمثل في الکشف عن الأبعاد الثقافية التي تخفت وراء الأسماء التي انحدر منها شعر ابن قيس الرقيات , قد نتوسل بطريقة أو أکثر من تلک الطرق لمساعدتنا في الکشف عن هذه الأبعاد, وبطبيعة الحال سوف نعول على الأخبار السردية التي ارتبطت بهذا الشعر ولن نفرق بينها وبين الشعر , کلاهما جزء من نص الثقافة الذي دار حول الشاعر .

وقد جاءت الدراسة تبعاً لذلک في المباحث التالية:

-         تمهيد عن  سيميائية الأسماء.

-         الرقيات ومحو العلامات.

-         الاسم ومخاتلة النسق.

-         الاسم وهاجس الانتماء.

-         خاتمة.

اسأل الله التوفيق والسداد إنه سميع مجيب الدعاء.

 

 

 

 

 

تمهيد :  سيميائية الأسماء.

الاسم مفتاح المعرفة , وهو الوسيلة التي يلج بها الإنسان إلى المجتمع , ويصبح شيئا فشيئا الشاهد والتاريخ والحاکي والراوي, يروي ما لم تذکره الکتب , وما نسيته الذاکرة , وما حوته
الواعية (2 ).

عوّل الإنسان على الاسم لاستحضار الأشياء وتحديدها؛فسمى الأودية والجبال, وسمى الکواکب والنجوم, وسمى خيله وإبله وکلابه  ...  الخ , أما الإنسان نفسه فهناک عناصر عدة اجتمعت في تسميته؛فهو يجد اسما ينتظره عند مولده, ويرث اسم نسبه من أسرته, کما يمنح بعد ذلک لقبا وکنية, وتتظاهر جميع هذه العناصر لرسم هوية الإنسان, وأي تغيير في أحدها يؤدي إلى اختلال في هذه الهوية,  ويدل على أننا  إزاء إشکالية انفصال وأن هناک هزة لا بد أن تملأ باليقين والثقة حتى يمنح الدال استقراره ( 3 ).ولعل هذا هو الذي جعل " بني الزنية " وهم فرع من بني أسد يرفضون تغيير اسمهم عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلک؛فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأوا تاريخا جديدا يکون الإسلام فيه نقطة البداية , لکنهم فيما يبدو " لم يقتنعوا بالتخلي عن اسمهم الذي حملوه وألفوه وأقاموا معه تلک العلاقة الغامضة التي تقيمها الکائنات العاقلة مع أسمائها ..." ( 4).

الحديث عن الأسماء باب واسع يستدعي متابعته على أکثر من مستوى, لکننا لن نتوغل في ذلک بأکثر مما تستدعيه هذه الدراسة.

يقول الجاحظ " کان عندنا حارس يکنى أبا خزيمة, فقلت يوما وقد خطر على بالي :کيف اکتنى هذا العلج الألکن بأبي خزيمة ؟ ثم رأيته فقلت له :خبرني عنک : أکان أبوک يسمى
خزيمة ؟ قال لا,  قلت فجدک أو عمک أو خالک ؟ : قال لا , قلت : فلک ابن يسمى خزيمة؟ قال : لا ,  قلت : فکان لک مولى يسمى خزيمة؟قال : لا , قلت :فکان في قريتک رجل صالح أو فقيه يسمى خزيمة؟قال : لا , قلت : فلم اکتنيت بأبي خزيمة وأنت علج ألکن , وأنت فقير وأنت حارس؟قال: هکذا اشتهيت .قلت : فلأي شيء اشتهيت هذه الکنية من بين جميع الکنى ؟ قال : ما يدريني؟ قلت فتبيعها الساعة بدينار وتکتني بأي کنية شئت ؛ قال: لا والله ,  ولا بالدنيا وما فيها ! " ( 5 ).

هذا النص تناثرت فيه الأسئلة والأجوبة بين محقق وجان, محقق يسعى للمحافظة على حقوق الملکية والبحث عن المبررات التي سوغّت للحارس استعماره هذا الاسم,  فيما لاذ الحارس بالمراوغة والنفي, وقد انتهت القضية بأن دفع الجاحظ من ماله لاسترداد هذا الاسم الذي اختطفه هذا الحارس,  الذي أزعم أنه کان على وعي بمکانة الاسم لا يقل عن وعي الجاحظ نفسه؛ فهو على الرغم من زعمه بعدم معرفة السبب الذي جعله يکتنى بهذه الکنية إلا أنه رفض بيعها بالدنيا وما فيها, وکأني به أراد أن ينخرط هو وأبناؤه في الثقافة العربية من خلال هذا الاسم.

            إن استراتيجية التسمية في الثقافة العربية استراتيجية واعية, وليست عشوائية؛فهم على ما ذکر أبو رقيش الأعرابي يسمون أبناءهم لأعدائهم , وعبيدهم لهم (6 ), کما أنهم يعقدون إلفا مع أسمائهم فيسمون الحفيد باسم جده والحفيدة باسم جدتها(7) , وهذا يؤدي بدوره إلى أن تشيع أسماء معينة في کل أسرة وفي کل بيت من البيوتات؛ فالأمويون شاعت فيهم أسماء مثل : أمية , أبو الحکم, أبو العاص, مروان, يزيد ... والعباسيون شاعت فيهم أسماء مثل : العباس , جعفر,  على, عبدالله ... وهکذا , وهذا لا يمنع أن تتسلل بعض الأسماء بفعل الصداقة أو المصاهرة أو أمور أخرى تجلت في نص الجاحظ السابق.

أما استراتيجية  الأسماء في الأعمال الأدبية فتتفاوت آراء الدارسين حولها : فهناک من يرى أن استراتيجية الأسماء في الأعمال الأدبية في أغلب الأحيان استراتيجية واعية, وأن المؤلف يختارها عن قصد ,  وعن سابق إصرار وتصميم , ويحملها المعاني والدلالات التي تندرج في السياق العام لمعنى الأثر(8).

ومنهم من يرى أن الأسماء لا دلالة لها , بل هي مجرد سمات بسيطة تسمح بالتمييز بين موضوع وآخر ... وإنها بمثابة أوصاف مقنعة ( 9 ).

کما يفرق بعضهم بين نمطين من الأسماء, أسماء للإخبار , وهذه قلما تتجاوز دلالة الاسم على المسمى , وأسماء للإيحاء , وهي التي يتخيرها الشاعر من رصيده الثقافي , ودلالتها ليست في ذاتها ولکن فيما وراءها من أبعاد(10).

وعلى ضوء ذلک فإن أشعار ابن قيس الرقيات تنحدر من مجموعة من الأسماء المتخيلة والحقيقية وهي نمطان :

النمط الأول : أسماء النسوة التي هي أقرب إلى أن تکون أسماء متخيلة أو أسماء للجواري والمغنيات مثل : أمة الغفار , تکتم,  أم مساحق,  أثلة, قسيمة,  ليلى,  أسماء ,  ريا ,  سلامة ,  مسعده ,  سعدى,  سلمى,  سليمى ,  سلمة,  نعمى,  أم عمرو,  أم الوليد ... ودلالاتها لا تتجاوز دلالة الاسم على المسمى في أکثر الأحيان,  وهي لا تشير إلى أنثى محددة بل تشير إلى الأنوثة المطلقة, وهي امتداد للطريقة التقليدية في الغزل.

النمط  الثاني : وهي الأسماء الصريحة لکبار رجالات قريش في الجاهلية والإسلام,  وشريفات هذه القبيلة اللاتي صرح بأسمائهن, هذا بالإضافة إلى أسماء الأماکن وخاصة أماکن
الحجاز ,  وهذه الأسماء اختارها الشاعر ليعبر بها,  ودلالاتها ليست في ذاتها بل تتعداها لما وراءها من أبعاد.

الرقيات ومحو العلامات :

تذکرت وأنا أتأمل نسب ابن قيس , وما آل إليه أمره, وکيف تسللت الرقيات إلى نسبه؟ تذکرت حکاية أهل جزيرة في المحيط الهادي, کان لهم أساطيرهم التي تزودهم بالأجوبة على کل تساؤلاتهم في الوجود والمصير, وکان لهم حکماء يروونها لهم, ثم حدث أن أحد الحکماء نسي اسما في سلسلة الأسماء, فرحل بحثا عن وسيلة للتذکر, وعندما عاد وجد قومه قد غلب عليهم أعداؤهم ,  فغيروا أسماءهم وثقافتهم وتلبسوا نساءهم (11 ).

ونحن لا نريد أن نتلقى حکاية ابن قيس بمثل أسطرة حکاية هؤلاء القوم, لکن لا يحسن بنا ونحن نرى هذا الشاعر الذي ملأ صيته الآفاق يتنقل في بطون الکتب مرة باسم "عبيدالله "(12) وأخرى باسم "عبدالله "(13) ولا نعرف حقيقة ذلک وکيف حصل؟.

إن اضطراب الرواة في تحديد اسم ابن قيس جعله يقع في دائرة العتمة والغموض, وسلکه في سياق الخيالي الذي لم يتعين , ولا يمتلک علامات تفرقه عن غيره, وقد يرى فيه البعض تهوينا لشأنه وتنقيصا من مکانته(14).

أما سلک نسبه في الرقيات فقد حرمه من الانتماء إلى مجموعة يُدرج نفسه في ماضيها, ويتبنى تاريخها وهويتها, ويقوّم ذاته من خلال الانتماء إليها حيث إن حقيقة الإنسان ليست في نفسه بل فيما وراءها من الشعور الفطري بالأصالة وقوامها من الأصلاب والأرحام التي تعطي الإنسان قوة العزيمة (15).

لقد فقد ابن قيس علامتين مهمتين في حياة کل إنسان, فهل يعني هذا أن الخطاب الذي أدارته الثقافة حوله وعنه ينطوي على عداء صريح له ؟.

ليس أمامنا إلا قراءة هذا الخطاب نفسه, وهو ذو شقين :نصوص سردية تدور حول الشاعر,  نسجها رواة متعددون يختلفون في مشاربهم وانتماءاتهم , أما الشق الآخر فهو نص الشاعر نفسه, وهو لا يختلف عن أي نص شعري آخر في علاقته بقائله,  ومع أنه وصل إلينا براوية أبي سعيد السکري, إلا إنه لم يسلم – کما يقول محقق ديوانه – من تدخلات خصومه بالتحريف والتصحيف لإضفاء الصبغة التي يريدونها على هذا الشعر(16).

يظهر لنا بداية أن الخطاب السردي الذي دار حول الشاعر ملئ بالثقوب والفجوات, وهو خطاب منقسم على ذاته,  وذلک لسيادة خطابين أحدهما مع الشاعر والآخر ضده.

يلهينا هذا الخطاب – بداية -بالحديث عن السبب الذي لقب ابن قيس بالرقيات,  فتارة يذهب الى انه لقب بذلک لأنه کان يشبب بثلاث نسوة, کل واحدة منهن تسمى  " رقية ", وهذا يعني أن الشاعر نفسه هو المسؤول عن هذا اللقب فهو الذي سعى إليه, ومن جهة أخرى فهو يشير الى انه انتماء فني لا غير. لکنه ما إن يطمئن الى إلصاق هذا اللقب بالشاعر حتى ينصب شباکه مرة أخرى , ويشرع في المراوغة والإيهام فيتحدث عن أسباب أخرى ؛فيذهب إلى أن هؤلاء الرقيات لسن محبوبات الشاعر, وإنما هن جداته ,  وهناک فرق بين الأمرين؛ فالأول – کما اشرنا - انتماء فني - أما الآخر فهو انتماء نسب,  وکأن ابن قيس لا آباء له, وإمعانا من هذا الخطاب في تأکيد ما يذهب إليه, يزعم بأن اللقب لأبيه وأنه ورثه عنه (17) , لکن اللافت في هذا الخطاب انه لا يتحدث عن النتيجة التي ترتبت على هذا اللقب, والأضرار التي لحقت بابن قيس من جرائه.     

هذا الخطاب قابله خطاب آخر حاول إنصاف الشاعر , وهو خطاب مباشر يذهب إلى أن ابن قيس کان شاعر قريش في الإسلام (18) .فيعزز انتماءه إلى قريش من جهة ويوسع مدار شاعريته من جهة أخرى ولا يحصرها في فن الغزل وحده.

المتحدثون عن الشاعر کثر, وهم رواة شعره ورواة سيرته , ومن حققوا ديوانه ودرسوا شعره ومن سردوا عنه في کتب التراجم , وهم يختلفون في انتماءاتهم,  وفي الأزمنة التي تحدثوا فيها , لکنهم يتفقون على الانقسام في حديثهم عنه,  وهو انقسام استمر إلى عصرنا الحاضر, فالدکتور طه حسين يرى أنه کان قرشيا قبل کل شيء (19 ), لکنه لا يلبث أن يذهب إلى أن حياته متنوعة وأن حظه من الفن الشعري متنوع, وأنه کان في حياته العامة صاحب لهو وجد وفي حياته الشاعرة صاحب غزل ومدح ووصف وفخر ونضال سياسي (20), أما الدکتور علي نجدي ناصف فقد عنون دراسته عنه بأنه شاعر السياسة والغزل , ومثله فعل الدکتور إبراهيم عبدالرحمن, ويرى الدکتور العبادي أن وفاءه لقريش يضطرم في شعره اضطراماً يکاد يردده مع أنفاسه قبل قصائده (21 ).

   أحسب أن الدارسين المعاصرين يرغبون في تحديد هوية ابن قيس الفنية, وکأني بهم استشعروا أن لقب الرقيات يختصر شاعريته ويسلکه في الشعراء الغزلين مع إن شاعريته أوسع من ذلک,  فالدکتور طه حسين ذهب في بادئ الأمر إلى أنه کان قرشيا قبل کل شيء , لکن ظهر له – فيما يبدوا – أن هذا الرأي  –  أيضا –  يختصر شاعريته ويحصرها  في باب واحد مما جعله يذهب الى انه صاحب غزل ومدح ووصف وفخر ونضال سياسي, قد تابعه في ذلک کل من الدکتور على نجدي ناصف والدکتور إبراهيم عبدالرحمن , أما الدکتور العبادي فقد ارتأى أن شعره في قريش هو العلامة المميزة والأبرز. 

            ومع کثرة الآراء وتعدد الأصوات والمحاولات إلا أنها -للأسف -لم تفلح في المحافظة على اسم ابن قيس ونسبه فأصبحت الرقيات جاثمة على کيانه ينوء بحملها کاهله.

هناک نص آخر , وهو شعر الشاعر, وهو نص يمکن الاعتماد عليه لقربه من صاحبه؛وقد يکون الشاعر نفسه قد قصد إلى الدفاع عن نفسه من خلال شعره لفک الحصار الذي أحيط به.

ينفق ابن قيس جزءا ضخما من نصه الشعري في الحديث عن قبيلة قريش,  بداهة فإن کيان قبيلة قريش وسيادتها أکبر من أن يحافظ عليه شاعر حتى لو کان بوزن ابن قيس, وهذا يجعلني أعتقد أن ابن قيس نفسه کان يحاول من خلال الحديث عن قبيلة قريش أن يلملم جراحه, ويجمع ما تناثر من نسبه, وهو الذي يعلم أن الانتماء للقبيلة کنز ثمين:

إن قوم الفتى هم الکنز في دنياه والحال تسرع التقليبا (22)

            ويفتخر بانتمائه إلى هذه القبيلة :

وقد علمت  قريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش             إننا فرع إذا انتسبــــــــــــــــــوا

مراجح في صفوفهـــــــــــــــــــــــــــــم               وفرسان إذا رکبـــــــــــــوا [290]

ويتحدث عن أبناء عمومته بني النويعم , أمثال : أبي عاصم, وأبي مالک, وأبي فاطمة, وأسامة والحسين, وهو حديث متصل لا ينقطع وأحسب أنه بمثابة ردة فعل لإنقاذ ما يمکن إنقاذه لسد الشرخ الذي أصابه من سلک انتمائه في الرقيات .

کما يکشف نصه الشعري أن أشعاره في "رقية" لا تتجاوز سبع مقطوعات, وهو في حديثه عنها لا يتجاوز الدلالة المطلقة للأنثى , يقول في إحدى هذه المقطوعات:

شطت رقية عن بـــــلادک          فالهـــــــــــوى متشاعــــب

وغدت نوى عنها شطــــون        في البلاد وجانـــــــــــــــب

واستبدلت بي خلتـــــــــــي   إن النساء خوالــــــــــــب

ولقد تبدلنا بهــــــــــــــــــــــا   حيا فأنعم راغــــــــــــــب [216]

وجميع المقطوعات تسير على نفس النسق , وهذا يجعلنا أمام مفارقة صريحة؛ فأشعاره في رقية لا تسمح بسلک انتمائه فيها خاصة أنه لم يقتصر عليها بل جاوزها إلى نسوة کثر, بينما شعره في قريش يصح أن يسلک انتماءه فيهم حتى لو لم يکن منهم.

لقد أضير ابن قيس کثيرا بسبب هذا اللقب , ليس على المستوى الفني فقط, بل في حياته الخاصة, ولم يقف الأمر عنده فحسب, بل تجاوزه إلى عقبه؛حيث يتردد الخطاب الثقافي في حسم هذا الأمر ؛ فمرة يذهب إلى أنه لا عقب له, ومرة يذهب إلى أن له عددا من الأبناء والبنات(23 ), ولنا أن نتساءل بعد هذا کله هل حدث هذا الأمر عفوا أم أن هناک يدا خفية سعت إلى تدمير هذه الشخصية
ومحق هويتها؟.

أحسب أن الرجل کان على عداء مع السلطة, وقد أدخل فکرة الصراع معهم إلى شعره,  فهجاهم وهجا مناصريهم, ولا شک أنهم قابلوه بالعداء نفسه, فحاولوا قتله, لکنهم لم يتمکنوا لأمر لا نعلمه؛يروي أبو الفرج الأصفهاني أن عبدالملک بن مروان لما أعطي الأمان لابن قيس الرقيات, وحضر إلى مجلسه أخّر الإذن له, فلما دخل عليه, قال:يا أهل الشام:أتعرفون هذا؟ قالوا لا, فقال :هذا ابن قيس الرقيات الذي يقول:

کيف نومي على الفراش ولمــــا    تشمل الشام غارة شعــــــواء

تذهل الشيخ عن  بنيه وتبــدي     عن خدام العقيلة  العذراء

فقالوا يا أمير المؤمنين :اسقنا دم هذا المنافق, قال:الآن, وقد أمنته وصار في منزلي وعلى بساطي, قد أخّرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا (24 ).فهم وإن لم يستطيعوا شرب دمه فإنهم لم يعدموا طرقا أخرى لتدميره, وإنني أرجح أنهم هم الذين فعلوا به ذلک, فقد أرادوا له أن يکون مثل کثير عزه ؛ينسب في اليمن خزاعيا, وينسب في مصر کنانيا, وکان اليمانون والمصريون ينفونه ويزدرونه ويسخرون منه(25), أو أرادوا له أن يکون کالمجنون لا أحد يعرف انتماءه.

الاسم و مخاتلة النسق

أدارت الثقافة خطاباً حول المرأة ظهرت من خلاله کائنا مضافاً,  فهي زوج لفلان,  وأم لفلان,  وبنت لفلان,  وأخت له ... وقد أدى ذلک إلى حرمان المرأة من المشارکة في الحياة الاجتماعية والثقافية اللتين بقيتا حکرا على الرجل (26).

وقد توسل هذا الخطاب بالجمالية لتمرير هذا النسق عبر مجموعة من الکنايات التي خاتل بها المرأة حتى لا تقاومه,  فصورها " نؤوم الضحى",  "تتثاقل عن زيارة جاراتها" "إن مشت ليست بذات تلفت",  کأن لها في الأرض نسيا تقصه" ...الخ فحرمها من نعمة التمتع بالإشراق,  وزين لها الکسل وقطيعة جاراتها,  وأورثها قصر النظر.

لقد تحولت المرأة بفعل هذا الخطاب إلى کائن ثقافي,  جرى استلابها,  وبخست حقوقها,  لتکون ذات دلالة محددة ونمطية,  ليست جوهرا,  وليست ذاتاً,  و إنما هي مجموعة صفات (27).

ما أثار انتباهي أثناء قراءتي لأخبار ابن قيس الرقيات وأشعاره أن علاقته مع المرأة تجري خلاف السائد والمألوف , لنتأمل هذين النموذجين.

النموذج الأول: کثيرة.

روى أبو الفرج الأصفهاني قصة کثيرة من طريقين,  أحدهما برواية محمد بن العباس اليزيدي و الحرمي عن أبي العلاء وغيرهما,  وقد ذکروا أن ابن قيس بعد هزيمة ابن الزبير وقتله مضى إلى الکوفة,  فدخل إلى أول بيت,  فوجد فيه امرأة لها ابنتان کأنهما ظبيتان فأقام عندها أکثر من حول لا تسأله من هو ولا يسألها من هي,  وعندما رغب في الشخوص إلى أهله جهزت له راحلتين ومعهما عبد,  وأعطت العبد نفقة الطريق,  وقالت العبد: والراحلتان لک. أما الرواية الأخرى فهي عن طريق الأصمعي,  وهي لا تختلف کثيراً عن الرواية الأولى,  لکنها تذکر أن اسم هذه المرأة "کثيرة",  سمعهم ابن قيس ينادونها به,  وقد حاول معرفة هويتها ليکافئها فقالت له ما فعلت هذا من أجل المکافأة (28).

والروايتان يکمل بعضهما بعضا,  وتفکيکهما يکشف عن دلالات تختلف عن المألوف الثقافي والسائد العرفي,  أوجزها فيما يلي:

-  أصبحت المرأة ذاتاً مستقلة غير مضافة لأحد,  وهي التي تقوم بالفعل طيلة زمن الحکاية الذي استمر أکثر من عام.

-  سعى الخطاب إلى تأنيث الحيز المکاني الذي دارت فيه القصة,  فليس فيه سوى "کثيرة" وابنتان لها.

- لا يذکر الخطاب شيئا عن زوج هذه المرأة طيلة عام کامل,  ولا يشير إلى أقاربها الذين يحسن بهم أن يزوروها على الأقل في أوقات متباعدة خلال هذا العام.

- تزداد المفارقة حدة بجعل مکان الحکاية في أطراف المدينة.

- لا تسمح الحکاية بأية إطلالة للرجل؛ فالعبد -  مع أنه ناقص الرجولة بعبوديته -  أبعده الخطاب نهائياً عن الحدث,  بعد أن وهبته "کثيرة" لابن قيس, وکأني بالخطاب قد تخوف من وجوده وتأثيره على بنية الحکاية.

-  أظهرت الحکاية المرأة في موقف الشجاع؛ فهي تطمئن الجاني وتستل منه الخوف عندما تخبره سماعها نداء الخليفة في طلبه منذ نزل عليها,  کما أظهرت أريحيتها؛ فهي لم تفعل ذلک من أجل المکافأة.

إن الأنوثة في هذه الحکاية تعري الرجولة,  وهي بهذا تخالف السائد الثقافي والاجتماعي؛ حيث تتعرض المرأة للخطر لحماية الرجل والحفاظ على حياته.

ثمة نص آخر رافق هذه الحکاية التي قرأناها,  وهو شعر الشاعر الذي تخفى عند "کثيرة",  وتتجاذبه نزعتان:

النزعة الأولى يخفت فيها النسق,  ويصبح نص الشاعر ضد الثقافة,  ويمنح المرأة کيانا خاصا وذاتاً مستقلة:

ظعنت لتحزننا کثــــــــــــــــــيرة             ولقد تکون لنا أمـــــــــــــــــــــــــــــيرة

وهي تتعالى على الرجال ولا تصبوا إليهم:

عاد له من کثيرة الطرب            فعينه بالدموع تنسکـــــــــب

کوفية نازح محلتهـــــــــــا           لا أمم دارها ولا سقــــــــــب

والله ما إن صبت إلي ولا            يعلم بيني وبينها سبــــــــب

أما النزعة الأخرى فيطغى عليها النسق,  فهو يتمنى لو أنه لم يلق "کثيرة",  ويضيفها إلى بني الخزرج:

کثيرة أخت بني الخزرج

وهي کبقية النسوة تخاف ممن حولها:

تخاف کثيرة من حولها            وتقتل بالنظر الأدعــــــج

ويفخر بنفسه عند الحديث عنها:

إني امــــــــــــــــــرؤ لا يــــزدرى      دفعي عن اعراض العشيرة

في بيتها حسبا ومـــــــــــــــــن                  أخلاق صالحها ســـــــــريرة

وقد يکون حديثه عن الکبر والشيب على لسانها بمثابة الاعتذار عن احتمائه خلفها:

قالت کثيرة لي: قد کبرت       وما بک اليوم من داهمه

رأت رجلاً  شاحباً لونـــــــــــــه      أخا سفر أنزع  القادمــــــه

تخونه الدهر إخوانــــــــــــــــــه     کثيرة قد کنتِ بي عالمه

لنتذکر أن هذه النصوص قيلت في أوقات مختلفه,  کان الرجل في بعضها مهدداً بالموت فتخفى وراء المرأة التي عرّضت نفسها للخطر لحمايته,  في هذه اللحظة کانت المرأة محل تقدير جعل الرجل ينصفها غير عابئ بالنسق,  لکن ما إن زال الخوف عنه حتى عاد الوضع إلى ما کان عليه,  وربما کان ابن قيس نفسه يتألم في داخله مما جرى له,  وهو الرجل الذي يحارب السلطان لينتزع ملکه؛ مما جعله يقع تحت تأثير النسق بالرغم من المعروف الکبير الذي قدمته له المرأة,  لقد أنصف الرجل المرأة في ظل ضعفه وخوفه,  وما إن واتته الفرصة وذهب عنه الخوف حتى عاد إلى ما کان عليه.

لکن هل سلمت الحکاية من تدخلات الرجل ومن حماة الثقافة,  خاصة وأننا رأينا بطلها الرئيس يتراجع عنها ويحاول الالتفاف عليها؟,  الرجل شجاع کما تفهم الثقافة,  وهو الذي يحمي,  لکن في حالتنا ستکون المرأة هي الشجاع وهي التي تحمي,  وهذا يسلب الرجل حقوقه,  ولابد من ضرب هذه الحکاية واقتحامها بالتغيير والتبديل؛ فالدکتور شوقي ضيف يرى أن "کثيرة" هي المفتاح الذي يمکن أن نعرف عن طريقة کل هذه الحکاية,  فيأخذ في تقليب صفحات التاريخ ليجد نصاً يشير إلى أن کثيرة زوجة لعلي بن عبدالله بن العباس ويذهب إلى أن ابن قيس لجأ إلى علي ابن عبدالله لا إلى کثيرة نفسها کما ظن الرواة (29), ويصر على أن لها زوجا وأنه هو الذي قام بهذا العمل التطوعي لکنه لم يوضح لنا أين کان هذا الزوج طيلة عام کامل؟ لننتظر حتى تکتمل الحکاية فقد يکون زوج "کثيرة" ذهب إلى الخليفة ليحصل على أمان لابن قيس الرقيات!!.

النموذج الثاني: الأسماء الحقيقية.

أحدثت الأسماء الحقيقية التي تغزل بها ابن قيس الرقيات مثل: سکينة بنت الحسين,  عائشة بنت طلحة,  وأم البنين بنت عبدالعزيز بن مروان,  وعاتکة بنت يزيد بن معاوية أحدثت إرباکا کبيراً لدى الباحثين الذين درسوا شعره,  مما جعلهم يسلکون مسالک شتى لتأويله حتى ينسجم مع النسق الثقافي والاجتماعي السائد. فذهبوا إلى أن غزله في أم البنين وعاتکة کان هجاء يقصد به إغاظة الأمويين والتعريض بهم,  و أن ثورة عبدالملک عليه وإهدار دمه إنما کان أثرا من آثار هذا الغزل,  کما ذهبوا إلى أن غزله في سکينة وعائشة زوجتي مصعب کان مديحا يريد به الدعاية لمصعب وأهل بيته.

لقد اضطر هؤلاء الباحثون إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها مما أوقعهم في التناقض؛ يقول الدکتور طه حسين :" تظهر في غزله الهجائي خصلة جميلة,  رقيقة مؤثرة,  لا نجدها عند غيره من الهجائين السياسيين,  وهي أنه کان يخاصم الرجال دون النساء,  وکان يتخذ النساء وسيلة إلى حرب الرجال,  فکان يحرص الحرص کله على ألا يؤذيهن أو يذيع بينهن الفاحشة کذباً وزوراً.."(30) ويقول الدکتور العبادي عن الموضوع نفسه أنه " کان غزلاً فاضحاً يصف الخلوة والعشق له,  وأنه قد
تيمهن,  وهن في عصمة عبدالملک,  ثم يظهر لعبدالملک أن عاتکة وأم البنين راغبتان عنه لغيره
من الرجال, وذلک مسلک غريب لا يتفق مع آداب الإسلام الفاضلة , کما لا يتفق مع المروءة
وصفات المسلمين " (31).

لنتأکد أننا أمام ظاهرة جديدة برزت في العصر الأموي , فقد أصبحت المرأة تحضر في الشعر باسمها الحقيقي, في حين کانت تحضر سابقا بالاسم لمجرد الدلالة على الأنوثة المطلقة, ولا تشير إلى أنثى معينة, ونحن لا نستطيع عزل هذه الظاهرة عما استجد من ظروف في ذلک العصر أسهمت في کسر السائد الثقافي والمألوف العرفي , مما جعل المرأة تصيب ضربا من الحرية,  فأخذت تشارک في الاستمتاع بالحياة الجديدة , وتلم بالفنون الحديثة من شعر وغناء , فکانت تحضر مجالس المغنين والمغنيات, وتشارک في تنظيمها , وتتعرض للشعراء وتطلب إليهم أن ينسبوا بها وليرفعوا من قدرها ويخلدوا جمالها(32), ذکر ابن قتيبه أن عائشة بنت طلحة بعثت إلى کثير فقالت له:يا ابن أبي جمعة, ما الذي يدعوک إلى ما تقول من الشعر في "عزة", وليست على ما تصف من الحسن  والجمال؟ لو شئت صرفت ذلک إلى غيرها ممن هم أولى به منها أنا أو أمثالي فأنا أشرف وأوصل من عزة(33 ) , وذکر المبرد أيضا أن نصيبا نزل بامرأة تکنى أم حبيب من أهل ملل وکانت تضيف في ذلک الموضع وتقرى,  وکان نصيب لا مال معه في ذلک الوقت, فقال لها :إن شئت فلک أن أوجه إليک بمثل ما أعطاک أحدهما, وإن شئت قلت فيک شعرا , قالت: بل الشعر (34 ) . فهذه النصوص وأمثالها تکشف لنا أن الخطاب الثقافي في العصر الأموي قد غلب عليه التسامح مع المرأة , وخفت منه النسق, واتسعت مدارک سامعيه لقبوله على هذا النحو الذي أحسب أنه لا يتعارض مع قيم الإسلام ؛ فهؤلاء السامعون هم کبار الصحابة والتابعين, الذين لم يکن يفصل بينهم وبين عصر النبوة إلا سنوات محدودة.

هذه اللحظة اقتنصها الشعراء , ومنهم ابن قيس الرقيات الذي أدار خطابه الشعري على عدد من الأسماء الواقعية لنسوة من فضليات العصر وشريفاته, فيمدح عبدالعزيز بأمه أيضا فيقول:

اثن على الطيب أبي ليلى إذا               أثنيت في دينه وفي حسبه[192]   

وهو أمر أحفظ أخوه عبدالملک , لکنه ما لبث أن رضي بعد أن مدحه بأمه , فقال:

ولدتک عائشـــــــــــــــــــــــــة التــــي                فضلت أروم نسائهــــــــــــــــــــا

ويقول في عبدالله بن جعفر :

وابن أسماء خير من مسح       الرکــن فعالا وخيرهم بنيانا [300]

لقد صاغ ابن قيس في شعره نمطا أنثويا متفردا يترامى إلى آفاق لا متناهية من الرمزية, فعائشة بنت طلحة زوج مصعب بن الزبير " جنية ", "مطلية الأقراب بالمسک", "لها خرج العراق ومنبر الملک " وأحسب أن عائشة في هذا السياق هي المُلک نفسه,  أما أم البنين زوج الوليد بن عبدالملک فقد تنوعت إبدالاتها وانزياحاتها, واتسعت الدائرة الإشارية لها, وتقلبت أدوارها تقلب الملک الذي کاد يفلت من أهلها ثم أطبقوا عليه؛ فيتجاهلها ابن قيس في بداية الأمر, ويغيّب هويتها:

فکان الطيف من جنيــــة         لم يدر مذهبهـــــــــــــــــــــا[276]

ويشرب من ريقها, ويضاجعها, ويضحکها , ويبکيها, ويلبسها ويسلبها, ويرضيها ويغضبها, هي تعجبه وهو يعجبها, کان ذلک عندما کان ابن الزبير في أوج قوته والأمر له, لکن بعد هزيمته, أعاد لأم البنين هويتها:

قرشية کالشمس اشــــــــــرق      نورها ببهائهـــــــــــــــــــــــــــا

زادت على البيض الحســـــان        بحسنها ونقائهــــــــــــــــــــا

لما اسبکـــرت للشبــــــــــــــــــاب          وقنعت بردائهــــــــــــــــــــــــا

لم تلتفت للداتهـــــــــــــــــــــــا      ومضـــــــــت على غلوائها[272]

وهو رهن إشارتها, ينقاد لها حسبما تريد:

يا حبذا أم البنين علـــــــــى      ما کان من بذل ومن  تــــــرک

إن تسلمي نسلم وأن تدعي      الإسلام لا نخذلک في الشرک[289]

إننا أمام خطاب شعري له باطن وظاهر , وهو يحتاج إلى ترجمان کما قال ابن أبي عتيق (35 ) وقد أدرک معاصروه ذلک , قال عبدالرحمن الزهري , أنشدت أبا السائب المخزومي قول ابن
قيس الرقيات:

قد أتانا من آل سعدى رسول     حبذا ما تقول لي وأقـــــــــــول

من فتاة کأن قرن شمـــــس      ضاق  عنها  دمالج  وحجول

حبذا ليلتي بمزة کلــــــــــب     غال عني فيها الکوانين غول[291]

فقال لي : يا ابن الأمير , ما تراه کان يقول وتقول؟ فقلت:

حديثا کما يسري الندى لو سمعته      شفاک من أدواء کثير وأسقما

فطرب وقال:بأبي أنت وأمي, ما زلت أحبک, ولقد أضعف من حبي إياک حين تفهم عني
هذا الفهم(36).

إن هذا النمط الأنثوي يتسع ليعبّر به ولا يعبر عنه, وهو نمط يقتصر على بنات وزوجات الملوک , فيستحيلون معه إلى رموز للملک والخلافة.

إن المسألة أعمق , والصراع بين ابن قيس والأمويين صراع فکري ضخم يرتبط بالفناء والبقاء, ولا أعتقد أن هجومه عليهم عن طريق نسائهم يؤثر في هذا الصراع أي تأثير, کما إن هذا الأسلوب مرفوض في الثقافة العربية, ترى فيه دناءة ينأى العربي بنفسه عنها, وابن قيس لم يکن شريرا ولا سيء الدخيلة , وهو کما يقول الدکتور طه حسين؛ محب لقومه يؤثرهم على الناس جميعا, ويحرص على کرامتهم أشد الحرص (37 ), وهؤلاء النسوة بنات عمومته تربط بينه وبينهن أواصر القرابة والرحم:

بالله يا أم البنين: ألـــــــم   تخشي عليک عواقب الاثم

لله درک في ابن عمک إذ    زودته سقما على سقـــــــــــــم  [295]

إن هذا النمط من الغزل کان له معارضوه الذين وقعوا تحت تأثير النسق؛ذکر ابن عبدربه أن يزيدا قال لأبيه : إن عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتک رملة قال: وما يقول فيها؟ قال :يقول :

هي بيضاء مثل لؤلؤة الغــــــواص    صيغت من لؤلؤ مکنــــــــــــــــون

قال: صدق ,  قال : ويقول :

وإذا ما نسبتها لم تجدهـــــــــــــــــــا    في سناء من المکــــــــــــــارم دون

قال : صدق أيضا,  قال : ويقول :

تجعل المسک واليلنجــــــــــــــــــــوج     صلاء لها على الکانـــــــــــــــــون

قال : صدق ,  قال : فإنه يقول :

ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء    تمشي في مرمر مسنـــــــــــــــون

قال : کذب ,  قال : ويقول :

قبة من مراجل ضربوهــــــــــــــــــــا     عند برد الشتاء في  قيطون

   قال : ما في هذا شئ ( 37 ) .

کما تهدد الحجاجُ الشاعر النميري عندما تغزل بأخته زينب, لکنه عاذ بوالد الحجاج الذي ذهب إلى الخليفة عبدالملک فقال له : يا أمير المؤمنين إن فتى منا ذکر زينب بما يذکر العربي ابنة عمه, وقد علمت أن هذا – يعني الحجاج – لم يزل يتتوق عليه ويهم به, قال عبدالملک : أليس النميري, قال : بلى, قال : لقد سمعت شعره فما سمعت مکروها ثم أقبل على الحجاج فقال : لا تعرض له (39 )  وأحسب أن الدکتور طه حسين ومن نحا نحوه من الدارسين قد وقعوا تحت طائلة هذا النسق الثقافي حينما جعلوا هذا الشعر هجاء وأن الأمويين أهدروا دم ابن القيس لتغزله في نسائهم,  وأحسب أنهم کانوا صارمين فيما ذهبوا إليه مثل يزيد والحجاج.

الاسم وهاجس الانتماء

أوشکت سياسة الأمويين أن تقضي على قبيلة قريش, فقد قاموا بتحييد رجالاتها, ومکنْوا لغيرها من القبائل المنافسة التي ظلت تحسدها وتتطلع إلى سلطانها في الجاهلية والإسلام, لقد اصطنع الأمويون کلبا ومن لفّ لفّها من القبائل اليمنية وانتصروا بهم على أبناء عمومتهم, وانتهى بهم الأمر إلى دخول مکة – حرسها الله - غير مبالين بحرمة البيت وهدموا الکعبة:

حرقته رجال لخم وعک    وجذام    وحمير   وصداء [255]

وقد عرضت هذه السياسة مرکز قريش الديني والسياسي للخطر, وکاد السلطان ينتقل من قريش إلى کلب:

حبذا العيش حين قومي جميــــع                لم  تفرق  أمورها الأهواء

قبل أن تطمع القبائل في ملــک     قريش وتشمت الأعـــــــــداء

أيها المشتهي فنـاء قـــــــــــــــــــريش          بيد الله عمرها والفنـــــــاء

لقد اصطف القرشيون خلف ابن الزبير, وکان ابن قيس الرقيات ضمن هذا المعسکر وقد أدخل شعره في قلب هذا الصراع , وکانت الأسماء : أسماء الأعلام وأسماء الأماکن إحدى الصيغ التي عوّل عليها لتعزيز الانتماء , وتوحيد الصفوف لمواجهة الخصوم.

أسماء الأعلام :

تقمص ابن قيس شخصية الحکيم الذي أشرت إليه سابقا , فأخذ يستدعي الأسماء التاريخية لکبار رجالات قريش في الجاهلية والإسلام , وقد بدأها بالمصطفى صلوات الله وسلامه عليه وکبار الصحابة:

نحن منا النبي الأمي والصديـق      منا التقي والخلفـــــــــــــــــــــــــــاء

وقتيل الأحزاب حمزة منــــــــــــــــا    أسد الله والسناء سنـــــــــــــــــــــاء

وعلي وجعفر  ذو الجناحيـــــــــــن     هناک الوصي والشهــــــــــــــــــداء

والزبير الذي أجاب رســـــــول الله     في الکرب والبلاء بـــــــــــــــــــــــلاء

وأبو الفضل وابنه الحـــــــــــــــــــــبر     عبدالله ان عي بالرئي الفقهاء

والذي إن أشار  نحوک  لطما       تبع اللطم نائل وعطـــــــــــــــــــاء

وعياض منا عياض بن  غنم       کان من خير من اجن النساء [251]

ولم يقف عند أسماء رجالات قريش فحسب , بل تعداهم إلى من حالفهم من الأحابيش :

   ورجال من الأحابيش کانت        لهم في الذين حاط دمــــــــــــــاء[254]

لنلاحظ أنه يستبعد الأسماء الأموية مع أنهم من سادة قريش, فهو يحملهم ما آل إليه الحال ويکرهم کرها شديدا:

أنا عنکم بني أمية مــــــزور          وأنتم في نفسي الأعــــــــــــــــداء [256]

ويحاول أن ينتزع عثمان بن عفان -  رضي الله عنه -  منهم ؛ فيقوم باستدعائه ضمن رجالات قريش عن طريق التأکيد على قرشيته وما کان يکنه القرشيون له من حب:

والذي أشربت قريش له الحـب      عليه مما يحـــــــــــــــــــــــــــــــــــب رداء   [254]

لکن سارت الأمور على غير ما يريد ابن قيس فانهزم ابن الزبير الذي عقد عليه الآمال لاستعادة المجد القرشي , وغلب الأمويون وأصبحت أسماؤهم  : (أمية , معاوية, يزيد, أبو العاص, أبو الحکم, مروان ... ) هي الأسماء الغالبة , فماذا فعل ابن قيس الرقيات ؟.     

لنتذکر أن ابن قيس ليس مجرد شاعر أو عضو في معسکر ابن الزبير, لقد کان الحکيم والمنظر الفکري والإعلامي لهذا المعسکر, وهذا ما جعل ابن الزبير - عندما أدرک أن الحسم العسکري ليس في صالحه - يحمل ابن قيس بالأموال ويطلب منه النجاة ( 40) ولعله فعل هذا طمعا في أن يکمل ابن قيس المشوار وتحقيق الهدف ؛ من خلال النضال الفکري.

لقد تخفى ابن قيس عاما أو أکثر لامتصاص الغضب الأموي الذي کان يطارده ليلا ونهارا في کل مکان .لکن بعد أن خف الطلب عليه خرج من مخبئه , فاستجار بعبيدالله بن جعفر أو بعبدالعزيز بن مروان, تختلف الروايات في ذلک , فشفع له أحدهما بالکتابة إلى أم البنين زوج الوليد, لتشفع له عند عمها عبدالملک الذي کان لا يرد لها طلبا ,  وقد قبل شفاعتها فيه بعد جهد جهيد(41 ).

بدأت في تلک اللحظة مرحلة جديدة في حياة ابن قيس تتسم بالمداهنة والمهادنة, فمدح عبدالملک بقصيدة يقول فيها :

ما نقموا من بني أمية إلا    أنهم يحملون إن غضبــــــــــــــــــــــــــــوا

وإنهم معدن الملوک فــــــلا   تصلح إلا عليهم العـــــــــــــــــــــــــــــرب [185]

وتتسلل الأسماء الأموية على لسانه :

   إن الفنيق الذي أبــــــــــــوه    أبو الـــعاصي عليه الوقار والحجب

   خليفة الله فوق منـــــــــــبره      جفت بذاک الأقلام والکـــــــــــــتب

يعتدل التاج فوق مفرقـــــه     على جبين کأنه الذهــــــــــــــــــــب [185]

نقاد الشعر يرون أن ابن قيس لم يوفق في مدحه , فقد جعل بني أمية ملوکا بل معدن الملوک , والملک بدعة لا تتفق مع نظام الحکم الإسلامي, وأشار إلى إنهم جبابرة لا يصلح العرب إلا بشدة سطوتهم , وقد جعل حصولهم على الخلافة قضاء وقدرا وليس لهم حق شرعي فيه (42),  لنلاحظ إننا نتعامل مع نصوص مراوغة, قد تتبدى من خلالها صورة ابن قيس بطرق مختلفة, قد يراه البعض صادقا وقد يراه البعض مزدوج الولاء.هذه الضبابية هي ما أراده ابن قيس ؛ فقد کان مرغما على مدح الأمويين ومداهنتهم, ولم يکن عبدالملک بن مروان يجهل نوايا ابن قيس؛ يروى أنه قال :يا بن قيس تمدحني بالتاج کأنني من العجم وتقول في مصعب:

إنما مصعب شهاب من الله            تجلت عن وجهه الظلماء

ملکه ملک عزة ليس فيــه         جبروت منه ولا کبريـــاء

أما الأمان فقد سبق لک, ولکن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا(43 ), کما حاول عبدالملک التسلل إلى داخله ففاجأه بسؤال لا يحتمل المراوغة ؛يذکر أن ابن قيس "کان عند عبدالملک بن مروان فأقبل غلمان لهم معهم عساس خلنج فيها لبن البخت, فقال:عبدالملک : يا ابن قيس : أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها.

ملک يطعم  الطعام  ويسقي        لبن  البخت في عساس الخلنج

فقال :لا أين يا أمير المؤمنين , لو طرحت عساسک هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه, فضحک عبدالملک , ثم قال : قاتلک الله يا أبن قيس فانک تأبى إلا کرما ووفاء (44)" وأحسب أن المسألة ليست عسا ولا لبنا بل تتعداها الى ما وراءها من بياض القلوب وسوادها, وقد کان سؤال عبدالملک سؤال المرتاب, ولم تکن ضحکته ضحکة إعجاب بل ضحکة من اکتشف
الحقيقة الغائبة.

   لم يکن ابن قيس في قرارة نفسه يحب الأمويين إلا واحدا منهم:

فجعت بالغر  من أمية حاشــــــــــي   واحدا نجتلي به الظلما

أعني ابن ليلى عبدالعزيز ببا  بليون          تغدو جفانه رذمـــــــــــــــــا[296]

وقد اختاره اختيارا:

اخترت عبدالعزيز مرتغبـــــــــــــــــــا   والله للمرء خير من قسما [297]   

   لکن ما هي مبررات هذا الاختيار؟.

لنتذکر أن کره ابن قيس للأمويين ليس لأنهم أمويون, وهو لا ينکر عليهم أنهم من سادة قريش,  لکن خلافه معهم يرجع الى أنهم ابتعدوا عن قريش , فهو إن وجد أحدا منهم يعود بالأمر إلى قريش فهذا ما يتمناه , وأحسب أنه وجد ضالته في عبدالعزيز بن مروان . يکشف لنا نسق الأسماء أن عبدالعزيز بن مروان سمح للأسماء من خارج البيت الأموي بالتسلل الى بيته, فقد سمى أحد أبنائه عمرا, بعد أن تزوج إحدى حفيدات عمر بن الخطاب رضي الله عنه, کما أن ابنه الآخر أراد أن يتزوج سکينة بنت الحسين -رضي الله عنه -إلا أن الخليفة وقف ضد هذه الزيجة فلم تتم, لقد کان هذا البيت الأموي متواصلا مع البيوتات القرشية الأخرى, ينکح منها ويسمي بأسمائها , وربما کانت محاولة عبدالملک خلع أخيه عبدالعزيز من ولاية العهد تصب في هذا الاتجاه, وقد استمر هذا الشعور تجاه هذا البيت الى نهاية الدولة الأموية, يقول مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية, نجد في کتبنا أن ع بن ع بن ع  يقتل م بن م بن م  وأظن أن عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز قاتلي فأنا مروان بن محمد بن مروان (45 ).

لا أريد أن أتوغل أکثر لأتوسل بالأسماء لقياس انتماء الإنسان, لکن المشهد الواقعي يؤکد أنه کانت هناک فجوة بين هذا البيت الأموي وبين الأمويين, تناثرت رموزها في کتبهم ,  , وقد سعى ابن قيس الرقيات الى توسيع هذه الفجوة , فمدح عبدالعزيز بقوله:

يلتفت الناس حول منــــــــــــــــــــبره    إذا عمود البرية انهدما [297]

ما يثير الانتباه في هذا البيت هو کلمة  " انهدما " , فالهدم من کلمات الموت؛ واستعمالها في حياة الإنسان دعاء بزواله ,  يقول الشاعر:

   وما کان قيس هلکه هلک واحد             ولکنه بنيان قوم تهدما

وهو أمر أحفظ الخليفة فقال : بفيه الحجر, کما استمر ابن قيس في توسيع هذه الفجوة فأفرد لها قصيدة , يؤکد فيها أهلية عبدالعزيز للخلافة دينا وحسبا ؛ فيرفع نسبه في قريش إلى عبدمناف , ويستحضر نسبه من جهة الأم الى قضاعة ليستميل القبائل اليمنية إلى جانبه في المعرکة القادمة:

   أمک بيضاء من قضاعة في الـــبيت      الذي يستظل في طنبــــــــــــــــه

   وأنت في الجوهر  المهذب  مـــــــــــــــــن   عبد مناف يداک في سببــــــــه [192]

ويرسم صورة زاهية لهذا البيت ويستحسن استمرار الخلافة فيهم:

   يخلفک البيض من بنيک  کما   يخلف عود النضار في شعبه

   ليسوا من الخروع الضعيــــــــف ولا    أشباه عيدانه ولا غربـــــــــــــه [193]

وينص على وصية مروان بن الحکم لابنه عبدالعزيز بولاية العهد بعد أخيه عبدالملک:

نحن على بيعة الرسول وما     أعطى من عجمه ومن عربــــــه [193]

ويجمع الصفوف هذه المرة باستحضار أسماء رجالات من حمير ومضر في تشکل جديد يختلف عن قناعاته السابقة وکأني به تعلم درسا من إخفاقاته السابقة :

فيهم کريب يقود حمير لايعدل         أهل القضاء عن خطبــــــــــــــــــــــــه

   وعارض کالجبال من مضـــــــــــر     الحمراء يشفي ذا العر من جربه

   وابنا نزار  إذا هما اجتمعـــــــــــــــا     لم يترکا هاربا على هـــــــــــــــربه [193]     

يذکر الرواة أن عبدالعزيز کتب إلى عبدالملک يقول : لي ابن ليس ابنک أحب إليک منه إلي, فإن استطعت أن لا يفرق بيننا الموت وأنت لي قاطع فافعل, فرق له عبدالملک وکف عنه ذلک(46) , وأحسب أن رسالة ابن قيس کانت سببا في عدوله,   و قد تکشفت له الأمور التي ربما تؤدي إلى الانقسام في البيت الأموي فقال مقولته المشهورة  " لقد دخل ابن قيس مدخلا ضيقا ".

لقد حالت إرادة الله دون تحقيق هدف ابن قيس الرقيات بوفاة عبدالعزيز وقد انقطعت أخبار ابن قيس بعد ذلک نهائيا فمع أنه شاعر مجيد في باب الرثاء إلا أننا لم نجد له أي قصيدة في رثاء عبدالعزيز بن مروان , کما أدارت له الثقافة ظهرها فتجاهلت تحديد  موعد وفاته,  لکن أمله في بيت عبدالعزيز بن مروان لم يخب,  وصحّت نبوءته -  فيما بعد - عندما تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة فحلق بها بعيدا عن الفکر الأموي وقربها من سيرة الخلفاء الراشدين.

أسماء الأماکن والبلدان:

ما يثير الانتباه أن علاقة ابن قيس بالمکان تتغير من مکان الى آخر وهي علاقة مرهونة بما يکنه من مشاعر وأحاسيس تجاه المکان, ويمکن تقسيم هذه العلاقة الى ثلاثة أنواع :

النوع الأول : المکان المحايد, مثل حلوان, وقد کاد حديثه عنها يستحيل الى مجرد الوصف , وکأنما هو أحد شعراء الطبيعة , فيذکر تينها وعنبها ونخلها وطيورها:

سقيا لحلوان ذي الکروم وما                 صنف من تينه ومن عنبه

نخل مواقير بالفنـــاء الــــبرني        غلب يهتز في شربـــــــــــــــــه

أسود سکانه الحمام فمــــــــــا                    تنفک غربانه على رطبـــه [191] 

ويتبعه مکان شبه محايد , لا طيب للإقامة فيه مثل تکريت, فلا أهل ولا سلطان:

   أتقعد في تکريت لا في عشيرة        شهود ولا السلطان منک قريب

   وقد جعلت أنباؤنا ترتمي بها        بقتل نزار  والحروب حــــــــــــروب

   وأنت امرؤ للحزم عندک منزل       وللدين والإسلام منک نصـــيب

   فدع منزلا  أصبحت  فيه  فإنه       به جيف أودت بهن حـــــــــروب[235]

النوع الثاني : المکان المعادي, وهو الشام, ولن يستريح له بال حتى يغير عليها :

   کيف نومي على الفراش ولما        يشمل الشام غارة شعــــــــــواء

تذهل الشيخ عن بنيه   وتبدي       عن براها العقيلة العـــــــذراء [256]

النوع الثالث : المکان الصديق, وهي أماکن الحجاز من مکة الى المدينة, فيتحدث عن أحد ويناديه ويناجيه, ويسائله عن سخطه ورضاه, ويبث فيه الحياة بعد الموت الذي تغشاه فيقول :

أساخط أنت أم رضيت بمــا         اسـتبدلت بالحي بعدهم فقد

   بدلت غير الرضى وشط بهم        عنک صروف المنون والأبـــــــد [240]

لکن اللافت انه يستحضر هذه الأماکن في صراعه مع الأمويين الذين يرى أنهم هم الذين سلبوا هذا المکان مکانته , حينما نقلوا عاصمة الخلافة منه الى الشام:

أقفرت بعد عبد شمس  کداء       فکدي فالرکن فالبطحــــــــــــــــــــــاء

فمنى فالجمار من عبد شمس       مقفرات فبلدح فحـــــــــــــــــــــــــــــــــــراء

فالخيام التي بعسفــــــــــــــــــــــــــــان       فالجحـفة منهم فالقاع فالأبــــــــواء

موحشات إلى تعاهـــــــــــــــــن        فالسقــيا قفار من عبد شمس خلاء [250]

وحديثه عن الحجاز وأحقيته بالخلافة حديث متسق لا ينقطع حتى في حضرة الخليفة الأموي عبدالملک ,  يقول :

يا حبذا يثرب ولذتهـــــــــــــا        من قبل أن يهلکوا ويحــــــــــــــتربوا [184]

يروى أن معاوية عرض على عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقل الخلافة الى الشام فرفض(47). يبدوا لي أن ابن قيس عاش مثقلا بذکرى هذا الرفض, فقاومه بکل ما يستطيع, وقد نجح في تحقيق الهدف – على الأقل – على مستوى الذاکرة الشعرية.

الخاتمة :

سعيت في هذا البحث إلى الترکيز على التدليل ؛ رغبة في إتاحة الفرصة للقارئ للمشارکة في تعميقه وإثرائه ,  ودعم نتائجه التي أوجزها فيما يلي :

- ارتکز شعر ابن قيس الرقيات على مجموعة من الأسماء ,  وهي على نمطين , النمط الأول لا تتجاوز الأسماء فيه کونها معجما أسمائيا لجواري ومغنيات مکة والمدينة أمثال أمة الغفار ,  تکتم ,  أم مساحق ,  أثلة ,  قسيمة ,  ليلى ,  أسماء ,  ريا ,  سلامة ,  مسعده , سعدى ,  سلمى ,  سليمى ,  سلمة,  نعمى ,  أم عمرو ,  أم الوليد ... ,  ودلالتها لا تتجاوز الاسم على المسمى,  وکان يمکن لهذا النمط أن يجعل من ابن قيس الرقيات ثنائيا متميزا مع معاصر عمر ابن أبي ربيعة, لکن ابن قيس انحرف عن المسار الى وجهة أخرى, في حين أکمل عمر ابن أبي ربيعة المشوار وأفرد ديوانه بأکمله لهذا الباب . أما النمط الثاني فهي الأسماء الصريحة لکبار رجالات قريش وفضليات نسائها , وأسماء الأماکن في الحجاز ,  وهذا المستوى رافق مراحل صراعه مع الأمويين ,  وهي أسماء اختارها ليعبر بها؛ ودلالاتها تتعداها إلى ما وراءها من أبعاد .

- أضير ابن قيس کثيرا من لقب " الرقيات " أضير حياتيا بحجب نسبه القرشي ,  وفي تحديد اسمه ,  هل هو عبيد الله أو عبدالله ,  واستمرت هذه المشکلة إلى عقبه ,  أما من الناحية الفنية فقد اختصر هذا اللقب شاعريته في باب الغزل , بل قصره على الرقيات.

- النصوص التي تغزل فيها برقية محدودة لا تتجاوز من حيث الکم سبع مقطوعات , وهي تشير إلى الأنوثة المطلقة ولا تخص أنثى محددة, ويمکن أن نسلکها في النمط الأول , الذي تغزل فيه بنسوة کثر غيرها.

- خصص ابن قيس الرقيات جزءا ضخما من شعره للدفاع عن قبيلة قريش ,  وکأني به أراد أن يلملم ما انتثر من نسبه بسبب لقب الرقيات , ويحاول تعزيز انتمائه إلى هذه القبيلة العريقة.

- قد يکون وراء تلقيبه بالرقيات يد خفيه ,  فالمعطيات الفنية  - کما أشرنا - لا تقود إلى هذا اللقب ومما يعزز هذا الزعم کونه کان على عداء صريح مع السلطة.

- أحدث غزله في نساء الأمويين إرباکا لدى الدارسين الذين رأوا أنه يهجوهم من خلال التغزل بنسائهم ,  ورأوا أن هذا لا يليق وليس من أخلاق المسلمين , وقد ظهر للباحث أن المسألة أعمق من ذلک؛ فقد صاغ ابن قيس الرقيات نمطا أنثويا متفردا , استحال معه هؤلاء النسوة إلى رموز , تتغير إبدالاتها وانزياحاتها من موقف إلى آخر, بل إن بعض الأسماء تتغير إبدالاتها من موقف إلى آخر, وهذا النمط يقتصر على بنات وزوجات الخلفاء والأمراء.

اتخذ ابن قيس من الأسماء وسيلة لمقارعة الأمويين وتوحيد الصفوف لمواجهتهم , وکان لحضور الاسم دلالاته ,  حيث استبعد الأمويين من قائمة الأسماء واستحضر کافة الأسماء من البيوتات القرشية ومن حالفهم من الأحابيش . 

المصادر
1-        انظر :
-     د.طه حسين,  حديث الأربعاء,  دار المعارف ط12,  1/249-260.
-     د.شوقي ضيف ,  الشعر والغناء في المدينة ومکة لعصر بني أمية,  دار المعارف,  ط ل (د.ت) 275 – 316.
-     د. علي النجدي ناصف, ابن قيس الرقيات, شاعر السياسة والغزل, مطبعة احمد مخيمر, القاهرة 1968م.
-     د.عبدالله عبدالکريم العبادي,  رؤية جديدة في شعر ابن قيس الرقيات,  مطبوعات نادي الطائف الأدبي, 1990.
-     د.ابراهيم عبدالرحمن,  شعر ابن قيس الرقيات بين السياسة والغزل,  تحقيق ودراسة الشرکة المصرية العالمية للنشر ط1,  1996.
2-        محمد العافية, سيميائية أسماء الأعلام في: الوقائع الغريبة:لأميل حبيبي ,  مجلة الأقلام العراقية (ع1990, 6) ص 118.
3-        د.فاطمة الوهيبي,  جدل التسمية وجدل الکينونة,  قراءة في قصيدة "دون اسم" موسوعة الأدب السعودي,  ط1,  1422,  المجلد الثاني, ص 884.
4-        حسن بدوي,  أمثولة العبد الآبق,  فصول,  المجلد15,  العدد4,  1997,  ص 285.
5-        الجاحظ,  الحيوان,  تحقيق وشرح عبدالسلام هارون,  دار أحبار التراث العربي,  بيروت ط3,  1388,  3/28.
6-        القلقشندي ,  صبح الأعشى ,  المطبعة الأميرية ,  القاهرة ,  1913 ,  1 / 313.
7-        جاکلين سوبليه,  حصن الأسماء,  قراءات في الأسماء العربية,  ترجمة سليم محمد برکات,  المعهد الفرنسي للمنشورات العربية,  دمشق 1999 ص 18.
8-        إبراهيم صحراوي,  أسماء الشخصيات في الرواية الجزائرية العربية المعاصرة بين الأديبة والايدولوجيا,  مجلة اللغة والأدب,  الجزائر,  (ع8,  1996) ص 175.
9-        محمد العافية,  مرجع سابق ص 119.
10- محمد الهادي الطرابلسي,  خصائص الأسلوب في الشوقيات ,  منشورات الجامعة التونسية , 1981,  
ص 389.
11-       جاکلين سوبليه,  مرجع سابق ص11.
12-     انظر:
-     ابن سلام: طبقات فحول الشعراء,  تحقيق محمود محمد شاکر,  دار المعارف,  1952 ص529.
-     المصعب الزبيري,  نسب قريش,  تحقيق ليفي بروفنسال,  دار المعارف 1953,  ص435
-     ابن قتيبه, الشعر والشعراء,  تحقيق أحمد محمد شاکر,  طبع عيسى الحلبي 1364هـ,  1/523.
13-     انظر:
-     الجاحظ,  الحيوان,  مصدر سابق,  7/154.
-     المبرد: الکامل في اللغة و الأدب,  تحقيق محمد احمد الدالي, مؤسسة الرسالة 2/826,  827 ,  3/1104.
-     ابن دريد,  جمهرة اللغة,  مطبعة دائرة المعارف العثمانية,  حيدر آباد ,  1345,  1/193.
14-     انظر: أمثولة العبد الآبق,  مرجع سابق ص 286.
15-     انظر : د.لطفي عبدالبديع, عبقرية العربية في رؤية الإنسان والحيوان والسماء والکواکب, مکتبة النهضة المصرية ط1, 1976 ص 71.
16-     د.ابراهيم عبدالرحمن,  مرجع سابق ص 175.
17- انظر: البغدادي,  خزانة الأدب,  تحقيق عبدالسلام محمد هاورن,  الهيئة العربية للکتاب 1399,
  7/278-284.
18-     أبو الفرج الأصفهاني,  الأغاني,  دار الثقافة بيروت 1983,  5/66.
19-     د.طه حسين,  حديث الأربعاء,  مرجع سابق,  1/255.
20-     المرجع السابق 249.
21-     د.عبدالله العبادي,  مرجع سابق ص110.
22- د.إبراهيم عبدالرحمن,  مصدر سابق ص266,  وسوف أکتفي بالإشارة إلى رقم الصفحة بجوار النصوص الشعرية لتوثيق شعر ابن قيس رغبة في عدم إثقال الهوامش.
23-     أبو الفرج الأصفهاني,  مصدر سابق,  5/84.
24-     المصدر السابق 5/69.
25-     انظر: د.طه حسين,  مرجع سابق 1/285.
26-     د.عبدالله محمد الغذامي,  المرأة واللغة,  المرکز الثقافي العربي,  ط2 1997 ص131.
27-     المرجع السابق ص16.
28-     أبو الفرج الأصفهاني,  مصدر سابق,  5/67.
29-     د.شوقي ضيف ,   مرجع سابق ص285.
30-     د.طه حسين,  مرجع سابق ص 251.
31-     د.عبدالله العبادي,  مرجع سابق ص 83.
32-     د.شوقي ضيف,  مرجع سابق 98,  د.إبراهيم عبدالرحمن,  مرجع سابق 32.
33-      ابن قتيبة الدينوري , الشعر والشعراء, مصدر سابق ص 508.
34-     المبرد ,  الکامل في اللغة والأدب , ج 2 ص 689.
35-     أبو الفرج الأصفهاني ,  الأغاني.
36-     المصدر السابق 5 / 90 .
37-     د.طه حسين,  مرجع سابق, ص 251.
38-     ابن عبد ربه,  العقد الفريد,  دار الکتاب العربي ,  1403 ,  5/322.
39-     المبرد, الکامل , مصدر سابق 2/698.
40-     المصدر السابق 5/67.
41-     المصدر السابق 5 / 69.
42- د.محمد عبدالقادر أحمد,  دراسات في أدب ونصوص العصر الأموي,  مکتبة النهضة المصرية
1402 ص212.
43-     أبو الفرج الأصفهاني مصدر سابق 5 / 7.
44-     المصدر السابق 19 / 66.
45-     جاکلين سابليه,  مرجع سابق ص 138.
46-     أبو الفرج الأصفهاني,  مصدر سابق 17 / 196.
47-     ياقوت الحموي,  معجم البلدان, دار صادر بيروت 1397هـ, 3/63.