المؤثرات التربوية الإيجابية والسلبية في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم)

نوع المستند : مقالات علمیة محکمة

المؤلف

أستاذ التربية الإسلامية المشارک قسم التربية -کلية العلوم الاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض

المستخلص

الملخص
القرآن الکريم کتاب الله المنزل على رسوله هداية للناس ومنهجا للحياة , وهو شفاء وموعظة , وفيه تبيان کل ما يواجه الإنسان من معضلات أو مشکلات ؛ وهو مصدر للتربية الصحيحة ؛ يحدد أهدافها , ويرسم معالمها ويوجه ممارساتها وأنشطتها , ويسدد مسيرتها , ويزکي ثمارها ؛ وموضوع  هذه الدراسة حول سورة من سوره ؛ تلک هي سورة محمد ؛ تتأمل فيها وتتدبر معانيها وتبحث في مراميها ؛ ثم تتناول ما کتب حول تفسيرها بشيء من التحليل بهدف استخراج ما تتضمنه السورة مما يتعلق بالتربية والتعليم ؛ وهو ما تجيب به هذه الدراسة عن الأسئلة المتعلقة بما تحويه السورة من مؤثرات تربوية ؛ إيجابية أو سلبية , وکذلک ما تحويه السورة من تحذير من المعوقات الذاتية أو الخارجية ؛ ومن خلال البحث و التحليل المتأني توصل الباحث إلى تحديد عدد من المؤثرات الإيجابية في السورة ( ومنها ما يتعلق بالثواب الدنيوي والأخروي ) وعدد من المؤثرات السلبية المنطوية على الردع والزجر في السورة ( ومنها ما يتعلق بالعقاب الدنيوي والأخروي ) ؛ وکذلک تحديد عدد من المعوقات أو المثبطات الذاتية والخارجية التي تعوق الإنسان عن الإنجاز وفعل الخير .

مقدمة :

الحمد لله رب العالمين الذي بعث رسوله بالهدى والنور المبين وسمى باسمه سورة من أعظم سور القرآن الکريم , والصلاة والسلام على رسوله الأمين , المبعوث رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا , وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد :  فإن القرآن العظيم هو المنبع الذي لا ينضب لإصلاح النفوس والقلوب , وبصلاح القلوب تصلح القوالب والأحوال والأبدان , وهو النور الذي يضئ الدروب , وهو الهدى والرحمة والذکر والبيان , والموعظة والشفاء , والطمأنينة والرشاد ؛ والله سبحانه وتعالى يقول : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا کَبِيرًا) [ الإسراء : 9 ] , ويقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) [ الإسراء : 82 ] ,  ويقول : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْکُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [ يونس : 57 ] , ويقول : (.. وَنَزَّلْنَا عَلَيْکَ الْکِتَابَ تِبْيَانًا لِّکُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) [ النحل : 89] , ويقول : (وَکَذَلِکَ أَوْحَيْنَا إِلَيْکَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا کُنتَ تَدْرِي مَا الْکِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَکِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّکَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [ الشورى : 52 ] , ويقول : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) [ الجاثية : 20 ]      

وهذه الآيات _ وغيرها کثير _ توضح أن کتاب الله هو الهدى والنور والحق والموعظة والشفاء , وهو مصدر التربية السليمة للنفوس والمجتمعات ؛ وقد تضمنت سور عديدة في القرآن حقائق تربوية , ومؤثرات إيجابية , وأساليب ومضامين تربوية في غاية الأهمية يحتاجها المربون , والدعاة والمصلحون , وأطباء النفوس والأبدان , ويحتاجها المتربون والأشخاص العاديون , وغيرهم ممن يروم تربية نفسه أو غيره , وهذه المواضع من الکثرة بحيث لا يحيط بها بحث عادي ؛ وإنما تحتاج إلى موسوعة شاملة يتضافر على معالجتها وإعدادها مجموعة من الباحثين  الجادين , وحينما يتأمل القارئ لکتاب الله ما يقرأ يجد فيه مما يتعلق بالتربية وشؤونها وشجونها ما يحير عقله ؛ فيحتار فيما يختار ؛ هل يختار هذه الآيات أو تلک ؛ أو هذه السورة أو تلک , وقد وقع الاختيار هذه المرة على سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ففيها مما سبقت الإشارة إليه الشيء الکثير ؛ فموضوع السورة  الرئيس وموضوعاتها الأخرى کلها فيها ما يمس شغاف القلوب ويحرک أشجان النفوس ويخاطب الأذهان والعقول بشتى المؤثرات التربوية المتنوعة .

وانطلاقا من ذلک کله فإن موضوع هذه الدراسة هو المؤثرات التربوية الإيجابية والسلبية , وکذلک معوقات السلوک في سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .

مشکلة الدراسة :

تتعلق مشکلة الدراسة بالإجابة عن السؤال الرئيس حول ما تتضمنه سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من مؤثرات تربوية إيجابية أو سلبية ( زواجر وروادع ) , وما تتضمنه کذلک من عوامل ( معوقات ) تعوق الفرد عن الإنجاز والعمل الصالح له ولمجتمعه ؛ ويمکن تفريع هذا السؤال إلى الأسئلة الفرعية التالية :

1 - ما المؤثرات التربوية الإيجابية في سورة محمد ؟ .

2 - ما المؤثرات التربوية السلبية في سورة محمد ؟ .

3 - ما المعوقات التي تعوق الأفراد عن فعل الخير والعمل الصالح المذکورة في سورة محمد ؟ .

أهداف الدراسة :

تتمثل أهداف الدراسة في الکشف عن المؤثرات التربوية الإيجابية والسلبية ومعوقات السلوک في سورة محمد , والمساهمة في تبيان المنهج التربوي في القرآن الکريم , وتقديم جهد بحثي في هذا المجال مشارکة للباحثين فيه , وتشجيعا للباحثين الآخرين على الاتجاه نحو الدراسات التربوية القرآنية , وکذلک الدراسات المتعلقة ببيان الهدي النبوي في ميدان التربية

أهمية الدراسة : 

تنبثق أهمية الدراسة من أهمية موضوعها ذاته ؛ فهي تهدف إلى استجلاء بعض المضامين التربوية المتعلقة بالتأثير التربوي في النفوس في سورة عظيمة من سور القرآن ؛ وکل القرآن عظيم ؛ وهذه السورة احتوت على کثير من المفاهيم والحقائق التربوية ذات الأهمية البالغة ؛ ولذلک فإن دراسة هذه الحقائق وإبرازها من خلال هذه السورة العظيمة له أهمية بحثية وعلمية کبيرة .

مصطلحات الدراسة :

  • التربية : 

التربية المقصودة في هذه الدراسة هي التربية الإسلامية ؛ وهي کما يعرفها صالح أحمد الشامي  : " عملية تقويم وتوجيه لسلوک الإنسان هدفها تطبيق المنهج الإلهي بالاستعانة بالوسائل والطرق التي حددها  - أو أقرها - المنهج نفسه " ( الشامي  1408 هـ , ص 12 ) . وما بين الشرطتين من تصرف الباحث .

  • المضمون التربوي :

هو ما تتضمنه سورة محمد وتحتويه من مؤثرات ومفاهيم وحقائق وتوجيهات تربوية نظرية وتطبيقية .

  • الحوافز :

هي محرضات السلوک التي تحض على الاستقامة والصلاح والقيام بالواجبات وتبعث على فعل الخير والإحسان والعدل والتفاني في العلم والعمل والإنتاج ونشر الفضيلة , وتباعد بين الفرد وبين الانحراف والإهمال والتواني والقعود .

  • المؤثرات التربوية الإيجابية :

هي حوافز ومحرضات للسلوک تعتمد على جذب الفرد نحو الفعل المرغوب ( وترک الفعل المذموم ) عن طريق الترغيب والتشجيع .

  • المؤثرات التربوية السلبية :

هي روادع وزواجر تعتمد على تنفير الفرد عن الفعل المذموم    ( أو ترک الفعل المرغوب ) عن طريق الردع والزجر .

  • المعوقات :

هي ما يعوق الفرد عن فعل الخير ؛ سواء کانت معوقا خارجيا أو معوقا ذاتيا نفسيا ( مثبطات ) .

  • سورة محمد :

هي السورة المعروفة بهذا الاسم , والمعروفة کذلک باسم سورة القتال .

  • منهج الدراسة :

منهج البحث في هذه الدراسة منهج وصفي تحليلي ؛ وذلک من خلال وصف وتحليل النصوص المتعلقة بموضوع الدراسة  ؛ مثل أقوال المفسرين حول الآيات ومعانيها ومقاصدها , وذلک لمحاولة استخلاص المضامين التربوية التي تحتوي عليها السورة موضوع الدراسة .

الدراسات السابقة :

التربية في القرآن الکريم کانت ولا زالت محل اهتمام کثير من الباحثين والعلماء  ؛ کما أن بعض المفسرين اعتنوا بالجانب التربوي في تفاسيرهم للقرآن ؛ ومنهم مثلا الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره " تيسير الکريم الرحمن في تفسير کلام المنان " ففي مواضع عديدة يقف فيها وقفات تربوية يتطرق من خلالها إلى بعض الحقائق التربوية والعلمية والتعليمية , ومنها مثلا استنباطه لکثير من الحقائق التربوية أثناء تعرضه لقصة موسى مع الخضر في سورة الکهف , ومواضع أخرى . وکذلک بعض المفسرين من المتقدمين والمعاصرين الذين اعتنوا بهذا الجانب .

وبالإضافة إلى کتب التفسير هناک من الباحثين والعلماء من خصوا الجانب التربوي في القرآن الکريم بدراسات خاصة ؛ ومن ذلک علي عبد الحليم محمود في کتابه التربية في القرآن الکريم ؛ وقد خصص بعض السور بدراسات تربوية خاصة بکل سورة منها ؛ مثل التربية في سورة المائدة , وسورة النور , وسورة آل عمران , والأحزاب والأنفال والتوبة والنساء , وقد حدد هدفه من هذا التفسير التربوي – کما سماه – بقوله : " استلهام ما تهدي إليه آيات القرآن الکريم من قيم تربوية توجهنا إلى حياة إنسانية کريمة تحفظ فيها الحقوق وتؤدى الواجبات وتقوم على الشورى والعدل , وتستهدف صالح الإنسان في دنياه وآخرته " , وقد سلک في بحثه خطوات منهجية تمثلت في عرض موجز للموضوعات التربوية في کل سورة , وإلقاء الضوء على معاني الآيات وما تتضمنه من تأثير في روح الإنسان وعقله وبدنه , واستنباط المواقف التربوية التي تستفاد من الآية أو السورة , ومحاولة الترکيز على الجانب التربوي التطبيقي لهذه السورة في واقع الحياة وواقع الدعوة الإسلامية .

هذا محور عام في الدراسات السابقة لهذا البحث وهناک محور آخر يتخذ من البحث الموضوعي التربوي الخاص في القرآن غاية له وهدفا ؛ وذلک مثل دراسة أحمد محمد المقري تربية النفس الإنسانية في ظل القرآن الکريم ؛ وهي رسالة ماجستير تقدم بها إلى کلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الملک عبد العزيز ( سابقا ) جامعة أم القرى (حاليا) , وتعرض من خلال أبوابها الثلاثة إلى موضوعات تربوية ؛ مثل مفهوم التربية في القرآن , والنفس الإنسانية , والإنسان والخلافة , والإنسان والغريزة , والإسلام دين الفطرة والتربية في الإسلام , والتربيات الجاهلية قديما وحديثا , ودور القرآن في تربية النفس , والعبادة وآثارها التربوية , والتربية الأخلاقية , وقد طرق من خلال ذلک تفصيلات عديدة.

وکذلک دراسة عبد الرحمن النحلاوي " التربية بالآيات " ؛ وهي دراسة مرکزة حول التربية بالآيات , وهي آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ؛ مثل الآيات الکونية وآيات الخلق , وآيات أو دلالات قدرة الله , والآية - في هذه الدراسة – يقصد بها الدلالة والبرهان على قدرة الله ووحدانيته ؛ وهي دراسة حول أسلوب من أساليب القرآن في التربية ؛ إذ إنها تتعرض للتربية بالآيات في الأنفس والآفاق من خلال عرض القرآن لهذه الآيات وتنبيهه إلى ما فيها من دلائل وبراهين على وحدانية الله وقدرته جل وعلا .

وهناک دراسة متخصصة بعنوان " أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الکريم " وهي رسالة جامعية أعدها الحسين جرنو محمود جلو ونال بها درجة الماجستير في التربية ؛ وهي دراسة عميقة تطرق فيها الباحث إلى أهداف القرآن وأساليبه في ضبط السلوک , وإلى مدى توافر أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الکريم , ومسوغات توافر الثواب والعقاب في القرآن , مع أنواع أساليب ضبط السلوک فيه , وتصنيف هذه الأساليب وأسسها , وغير ذلک , ولهذه الدراسة بعد إحصائي أضفى عليها طابع الدقة في نتائجها والجدة في مضمونها مع ما تعرض له الباحث من عمق نظري تأصيلي , وتضمن الجانب الإحصائي إيضاح نسب کل من الترغيب والترهيب ومعدل توزيع کل منهما في القرآن عموما , ونسبة وجود کل منهما في القرآن المدني والمکي , ونسبتهما في کل سورة , ونسبة توزيع أنواع الترغيب والترهيب في القرآن , وما إلى ذلک من تفصيلات إحصائية مفيدة .

مناقشة الدراسات السابقة :

من خلال هذا الاستعراض يتبين أن هذه الدراسات تطرقت إلى موضوع التربية في القرآن بمعناه الشامل الذي لا يرکز على جانب تربوي دون غيره ؛ هذا بشکل عام ؛ وإن کان هناک ميل في بعضها نحو التحول إلى موضوعات فرعية ؛ وهذا التحول اتخذ مسارين ؛ الأول : اختيار سورة من السور مثلا ودراستها من ناحية تربوية , وتکون هذه الدراسة شاملة لکل ما يتعلق بالتربية مما تتضمنه السورة , ومن الدراسات التي تندرج تحت هذا المسار دراسة علي عبد الحليم محمود التربية في القرآن الکريم ؛ حيث إنه اختار سورا بعينها وبحثها بحثا تربويا . والثاني : اختيار موضوع تربوي ودراسته في القرآن کله , أو في سورة من السور , ومن هذا القبيل دراسة المقري تربية النفس الإنسانية في ظل القرآن الکريم , ودراسة النحلاوي التربية بالآيات ودراسة الحسين جرنو محمود جلو أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الکريم .

وهذه الدراسات الرائدة في موضوع التربية في القرآن تمثل نماذج جيدة للسير على نهجها , وموضوع الدراسة المقترحة حول المؤثرات التربوية الإيجابية والسلبية في سورة محمد لم يتطرق له أي من هذه الدراسات ولا غيرها – على حد علم الباحث – وهي موضوع هذا البحث بعون الله وتوفيقه .

التربية في سورة محمد صلى الله عليه وسلم

السورة وموضوعها :

السورة هي سورة محمد ؛ وتسمى سورة القتال ؛ وهي سورة مدنية کما قال بذلک الأکثرون من العلماء ؛ إلا آية منها وهي قوله تعالى : (وَکَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِکَ الَّتِي أَخْرَجَتْکَ أَهْلَکْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) [ محمد : 13 ] ؛ فقد نزلت عليه وهو بمکة حين خرج منها بعد حجه وجعل يلتفت وينظر إلى البيت , وقيل إن السورة مکية .   (الشنقيطي , 1403 هـ  , ج 7 , ص 395 ).

ويتبين من موضوع السورة أنها مدنية ؛ وموضوع السورة هو القتال ؛ وقد سميت بسورة القتال ؛ فهو موضوعها الرئيس ؛ وبالإضافة إلى ذلک تضمنت موضوعات أخرى ؛ مثل جزاء الکفار وجزاء المؤمنين , وحکم الأسرى , وفضل الشهداء وأجرهم عند الله , ووصف نعيم الجنة وعذاب النار , والنفاق وصفات المنافقين وأحوالهم عند تلقيهم الأمر بالقتال , والفرق بين القلوب المريضة بالنفاق والقلوب المؤمنة المتدبرة لکتاب الله , مع بيان حال الدنيا والتزهيد فيها بالنسبة للحياة الآخرة , والسورة ثمان وثلاثون آية في أربعة أوجه ؛ أي ورقتين , ومع ذلک فقد حوت کثيرا من المضامين التربوية ؛ وفيما يلي نورد من هذه المضامين ما يتعلق بالإجابة عن أسئلة الدراسة تحت عناوينها المناسبة بإذن الله .

أولا : المؤثرات التربوية الإيجابية :

يقصد بالمؤثرات الإيجابية – هنا – کل ما يؤدي إلى نتيجة إيجابية في السلوک ؛ سواء کانت فعلا للسلوک المرغوب , أو کفا وامتناعا عن سلوک مذموم , وهو في الحالين نتيجة إيجابية ؛ فما يؤدي إليها هو مؤثر إيجابي بحکم ما يؤدي إليه من أثر تربوي مرغوب , وهي حوافز إيجابية تحفز على الفعل الإيجابي ؛ بحيث يتحرک الإنسان إلى فعله بدافع الأمل والرغبة في الحصول على العاقبة السارة ؛ سواء کانت عاجلة کالجوائز والمکافآت أو الثناء مثلا ؛ أو آجلة کالنعيم المدخر في الآخرة لمن يفعلون الخير رغبة فيما عند الله من الثواب والأجر ؛ والقرآن الکريم مليء بهذا النوع من الحوافز , وفي سورة محمد من ذلک نصيب ؛ وهو ما سوف نذکره فيما يأتي :

 

1-الإيمان :

الإيمان هو أقوى الحوافز التربوية الإسلامية ؛ وهو أقوى الحوافز الذاتية ؛ حيث يندفع المؤمن ذاتيا - بفعل الإيمان الذي تنطوي عليه جوانحه – إلى القيام بصنوف شتى من الأفعال الإيجابية المرغوبة ؛ وهو أول الحوافز ذکرا في السورة ؛ فبعد أن ابتدأ تعالى السورة بذکر الذين کفروا قال في الآية الثانية : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ کَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) [ محمد : 2 ] فذکر الذين آمنوا تمييزا لهم بإيمانهم عن الذين کفروا ؛ ثم تستمر الآيات في بيان تميزهم في أعمالهم وسلوکهم وما يستتبع ذلک من جزاء دنيوي أو أخروي , وکل ذلک بناء على ما ميزهم عن غيرهم أولا ؛ وهو " الإيمان " وما ارتبط به أو نتج عنه من عمل صالح ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ؛ ثم تستمر السورة في التمييز بين المؤمنين أيضا وبين المنافقين , وهو تميز مرده کذلک إلى الإيمان الذي يوجد عند هؤلاء وينعدم أو يضعف عند أولئک , وقد ارتبط ذکر الإيمان بالعمل الصالح في الآية الثانية وفي الآية الثانية عشر ؛ کما ارتبط به فيما يزيد على الستين موضعا في القرآن الکريم ؛ فالإيمان هو الأصل والعمل الصالح هو النتيجة المنبثقة عن ذلک الأصل , والإيمان هو الحافز , والعمل الصالح هو الثمرة المحفوزة بالإيمان .

2 -النداء بصفة الإيمان :  

من الحوافز الإيجابية المنطوية على التشويق والتشجيع الخطاب المحبب إلى النفوس المؤمنة من لدن الخالق الباري جل وعلا بقوله :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) , وهذا الخطاب يتوجه للمؤمنين بأهم صفة يتميزون بها عن غيرهم ؛ وهي صفة الإيمان الذي تنطوي عليه جوانحهم وهذا الخطاب کثير في القرآن ؛ حتى إن الباحث عدَ ما يقرب من تسعين موضعا في القرآن فيها هذا النداء للمؤمنين بصفة الإيمان فيهم , ولأنه نداء محبب يذکِر المنادى بصفة الإيمان فيه فإن نفسه تتهيأ لما بعد هذا النداء من أمر أو نهي أو توجيه أو تحذير أو حث أو تحفيز أو ما إلى ذلک ؛ فيفعل هذا النداء فعله في النفوس ؛ وسورة محمد ورد فيها هذا النداء في موضعين ؛ هما قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْکُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ)    [ محمد : 7] , وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ ) [ محمد : 33 ] وهاتان الآيتان مع ما فيهما من النداء المحبب فيهما رأفة الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين , وتوجيهه لهم إلى أسباب النصر وتثبيت الأقدام وإلى الطاعة والحرص على سلامة الأعمال مما يبطلها ؛ وهذا يبعث في نفوس المؤمنين الإحساس بقربهم من ربهم وقرب ربهم منهم ورأفته ورحمته بهم ؛ فيکون لهذا الإحساس مردوده النفسي عليهم طمأنينة وراحة فينطلقون إلى العمل وفق هذا التوجيه ؛ فالنداء وما ينطوي عليه من توجيه مشوب بالرحمة والرأفة حافز إيجابي للنفوس المؤمنة .

وإن مما يلفت النظر في القرآن الکريم أنه لا يوجد فيه مثل هذا الخطاب متوجها من الله للکافرين ؛ يوجد – على حد علم الباحث – موضع واحد فقط بصيغة :  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ کَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا کُنتُمْ تَعْمَلُونَ)  [ التحريم : 7 ] وهو خطاب توبيخ من الملائکة يخاطب به الکفار بعد دخولهم النار على سبيل التوبيخ واللوم وعدم قبول عذرهم ؛ فحالهم أنهم بعداء عن الله لا يستحقون منه خطابا مباشراً .

3 – اتباع الحق :

اتباع الحق يحفز إلى المزيد من المعرفة والعلم والتبصر ؛ وقد نوَه سبحانه وتعالى بفضل ذلک وأهميته في تسديد مسار حياة المؤمنين بقوله :  ( ذَلِکَ بِأَنَّ الَّذِينَ کَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ کَذَلِکَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ )  [ محمد : 3 ] ؛ فاتباع الحق ابتداءً يؤدي إلى الوصول إليه في نهاية المطاف , ويؤدي إلى مزيد من العلم النافع الذي يکون نبراسا للمرء في أعماله وأقواله وسلوکه عامة ؛ يسدد به مساره ويحفظه به من الزيغ والضلال , واتباع الحق في مجال العقيدة والعلم يشبه في هذا تأثير الطاعة والعمل الصالح في حفزها إلى طاعة أخرى ؛ کما ستبين من الفقرة التالية .

4 – العمل الصالح :

العمل الصالح يحفز – بتوفيق الله – إلى نظيره ؛ کما قال سبحانه : (  وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ  ) [ محمد : 17 ] , وقد ذکر المفسرون حول معناها أن الذين اهتدوا هم ابتداءً بأن حرصوا على الهداية وبحثوا عنها وسعوا إليها وصدقوا في ذلک فإن الله يوفقهم إليها ويزيدهم منها , ولهذه الآية نظائر أخرى ؛ کقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّکُمْ فُرْقَاناً وَيُکَفِّرْ عَنکُمْ سَيِّئَاتِکُمْ وَيَغْفِرْ لَکُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )   [ الأنفال : 29 ] , وقوله : ( شَرَعَ لَکُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْکَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ کَبُرَ عَلَى الْمُشْرِکِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) [ الشورى : 13 ] , وغيرها من الآيات .

يقول ابن القيم رحمه الله :  " إن العبد إذا آمن بالکتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره کان ذلک سببا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل ؛ فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ , ففوق هدايته هداية أخرى , وفوق تلک الهداية هداية أخرى إلى غير غاية ؛ فکلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى , فهو في مزيد هداية ما دام  في مزيد من التقوى , وکلما فوت حظا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه , فکلما اتقى زاد هداه , وکلما اهتدى زادت تقواه ؛ قال تعالى : (  يَا أَهْلَ الْکِتَابِ قَدْ جَاءَکُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَکُمْ کَثِيرًا مِّمَّا کُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْکِتَابِ وَيَعْفُو عَن کَثِيرٍ قَدْ جَاءَکُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُّبِينٌ .  َيهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ  ) [ المائدة : 15 , 16 ] " ( ابن القيم , د ت , ص 116 ) .

5 – التقوى :

التقوى حافز من ناحيتين ؛ الأولى : أنها رادع عن الوقوع في المعصية أو التهاون في الطاعة اتقاءً لما يترتب على ذلک من العقاب ؛ کما يتبين من تعريفاتها ؛ يقول ابن القيم :   " وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا , أمرا ونهيا ؛ فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده , ويترک ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده " وقال طلق بن حبيب لما سئل : وما التقوى ؟ قال : " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله , ترجوا ثواب الله , وأن تترک معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " ( ابن القيم , 1406 هـ , ص 8 ) .

الثانية : أنها مکافأة من الله لمن صدق في طلبه للهداية من ربه ؛ والمکافآت حوافز , يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ  )  [ محمد : 17 ] , ( وآتاهم تقواهم ) ؛ أي :  " ألهمهم إياها وأعانهم عليها " ( الشوکاني , 1412 هـ , ج 5 , ص 51 ) , ويقول سيد قطب : " وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر ؛ فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء فکافأهم الله بزيادة الهدى وکافأهم بما هو أعمق وأکمل : ( وآتاهم تقواهم ) ؛ والتقوى حالة في القلب تجعله أبداً واجفاً من هيبة الله شاعراً برقابته , خائفاً من غضبه , متطلعاً إلى رضاه , متحرجاً من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها ؛ هذه الحساسية المرهفة هي التقوى .. وهي مکافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله " ( قطب , 1394 هـ , ج 6 , ص 3294 ) .

6 – الشهادة في سبيل الله  :

الشهادة في سبيل الله شرف عظيم من ناله نال سعادة الدهر ؛ وذلک بسبب ما يترتب عليها من الميزات التي أعدها الله للشهداء في سبيله ؛ وفي السورة تحفيز بالشهادة وبما يترتب عليها من جزاء وثواب ؛ يقول تعالى :  (  فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ کَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِکَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَکِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَکُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) [ محمد : 4 – 6 ] .

وقد تضمنت الآيات بعض ما يکافؤ الله به الشهيد , وفضل الشهادة ومکانتها عند الله ورد بشأنه أحاديث کثيرة ؛ نکتفي منها بذکر حديث واحد ذکره ابن کثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية ؛ وهو مما أخرجه الإمام أحمد بسنده عن المقدام بن معدي کرب الکندي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للشهيد عند الله ست خصال ؛ أن يغفر له في أول دفقة من دمه , ويرى مقعده من الجنة , ويحلى حلة الإيمان , ويزوج من الحور العين , ويجار من عذاب القبر , ويأمن من الفزع الأکبر , ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت , والياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها , ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين , ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه " ؛   قال ابن کثير : أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه " ( ابن کثير , 1421 هـ , ص 1262 ) . إن کل خصلة من هذه الخصال حافز ذاتي قوي ؛ والشهادة بهذه الخصال والميزات العظيمة تصبح حافزا مرکبا تحفز على الإقدام والبذل والجهاد والإيثاروالتضحية .

7 – الثواب الدنيوي العاجل :

رتب الله تعالى على التمسک بشريعته والجهاد في سبيله والعمل بطاعته ثواباً دنيوياً عاجلاً يحصل عليه عباده حينما يقومون بذلک ؛ وهذا الثواب حافز مقدم لهم - في هذه الدار – لمعرفتهم بأن الله يجازي به ويتفضل به على عباده المؤمنين ؛ وهو حافز لهم بعد الأداء العملي لهذه الطاعات بما يجعله الله في النفوس من سعادة وطمأنينة وانتصار وازدياد من الهدى والرسوخ واليقين بعد أدائها ؛ وفيما يلي أهم ما تضمنته السورة من الثواب العاجل :

إصلاح البال ؛ کما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ کَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ  )  [ محمد : 2 ] , و " أصلح بالهم " کما يقول ابن جرير : " وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه وفي الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جناته " ( الطبري , 1408 هـ , ج 26 , ص 39 ]

نصر الله للمؤمنين وتثبيت أقدامهم إن هم نصروه ؛ فهو نصر مشروط ؛ ولذلک  فإن الوعد به في هذه السورة يحفز المؤمنين إلى استيفاء الشروط حتى يکونوا أهلا للنصر ؛ فالنصر ذاته والوعد به أيضا کلها حوافز للسلوک , و " النصر" أيضا هو جزاء عاجل للمؤمنين إن هم استوفوا هذه الشروط في حياتهم و واقعهم وإخلاصهم وعملهم وجهادهم ؛ حيث يقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْکُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ  )  [ محمد : 7 ] .

کما أنه تعالى ينصر من نصره فهو يزيد المهتدين إليه هدى ويملأ قلوبهم خشية وتقوى , وهو من ثوابه العاجل , وقد سبق بيان ذلک .

معية الله لعباده المؤمنين بالتوفيق والتسديد والإعانة والرعاية , وتوفيته لهم ثواب أعمالهم کاملا غير منقوص , وإشعارهم بذلک في کتابه تطميناً لهم وحثاً ورفعاً لمستوى الاستعداد لديهم للجهاد في سبيله ؛ وهذه کلها حوافز تفعل فعلها في نفوس المؤمنين ؛ يقول سبحانه : ( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَکُمْ وَلَن يَتِرَکُمْ أَعْمَالَکُمْ  )  [ محمد : 35 ] .

وفي معرض تفسيره للآية بين الشيخ السعدي رحمه الله ما تشتمل عليه الآية من حوافز لها أبلغ الأثر في بعث النشاط وتقوية النفوس ؛ يقول رحمه الله : " فهذه الأمور الثلاثة کل منها مقتض للصبر وعدم الوهن کونهم الأعلين , أي قد توفرت لهم أسباب النصر , ووعدوا من الله بالوعد الصادق , فإن الإنسان لا يهن إلا إذا کان أذل من غيره وأضعف عدداً وعُدداً وقوة داخلية وخارجية . الثاني : أن الله معهم فإنهم مؤمنون والله مع المؤمنين بالعون والنصر والتأييد , وذلک موجب لقوة قلوبهم وإقدامهم على عدوهم . الثالث : أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا , بل سيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله , خصوصا عبادة الجهاد , فإن النفقة تضاعف فيه إلى سبع مائة ضعف , إلى أضعاف کثيرة , وقال تعالى : ( مَا کَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ    وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْکُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ کُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ کَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ کُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا کَانُواْ يَعْمَلُونَ )   [ التوبة : 120 , 121 ] .

فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده , أوجب له ذلک النشاط وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب , فکيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلک يوجب النشاط التام , فهذا من ترغيب الله لعباده وتنشيطهم وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم . ( السعدي , 1421 هـ , ص 790 ) .

8 – الثواب الأخروي :

تحظى الحوافز الأخروية في الإسلام بالأهمية القصوى ؛ لأن الآخرة هي دار القرار والخلود , وفي هذه السورة ترکيز واضح على الثواب الأخروي بصفته حافزاً للسلوک ؛ ومن ذلک :

تکفير السيئات ؛ وهذا في حد ذاته مکافأة ربانية لعباده المؤمنين ؛ إذ أن الصفح عنهم وتکفير سيئاتهم يعفيهم مما يترتب عليها من عقاب أخروي ؛ يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ کَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ  )  [ محمد : 2 ] .

ومع تکفير السيئات المغفرة من الله لهم أيضاً ؛ کما في قوله تعالى : (  مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن کُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ کَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ  )   [ محمد : 15 ] .

إيتاء المؤمنين المتقين أجورهم مکافأة لهم على إيمانهم وتقواهم ؛ وهذا الإيتاء إنما هو ثواب أخروي ؛ فهو من الحوافز الأخروية ؛ يقول تعالى :  (  إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِکُمْ أُجُورَکُمْ وَلا يَسْأَلْکُمْ أَمْوَالَکُمْ  )  [ محمد : 36 ] .

الجنة ؛ وهي الحافز الأکبر الذي يشتمل على حوافز أخرى متنوعة , وتتعدد هذه  الحوافز بحسب ما في الجنة من أنواع النعيم واللذات والمتع النفسية والبدنية التي يثيب الله بها عباده ؛ فقد ذکرها تعالى بصفتها مکافأة للشهداء بقوله : ( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) [ محمد : 6 ] , ثم ذکرها تعالى في الآية الثانية عشر بقوله : (  إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ کَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْکُلُونَ کَمَا تَأْکُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ  )  [ محمد : 12 ] , وفي الآية الخامسة عشر ذکرها تعالى مفصلاً لأنواع الأنهار والثمار التي أعدها في الجنة للمتقين مقارنا لها بالخلود في النار وما فيها من أنواع العذاب ؛ يقول تعالى :  (  مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن کُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ کَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ  )  [ محمد : 15 ] .

ثانيا : المؤثرات التربوية السلبية ( الروادع والزواجر ) :

وهي تلک المؤثرات السلبية التي تملي على الفرد اتخاذ موقف سلبي يتمثل في الکف عن الفعل الشائن ؛ وهذا الموقف السلبي مرغوب لأنه يعني التوقف عن التصرفات الضارة والسلوکيات المنحرفة والذنوب والآثام بدافع الخوف والرهبة اتقاءً للعاقبة السيئة ؛ سواءً کانت عاجلة کالعقوبات الدنيوية ؛ عقوبات الحدود والقصاص والتعزير أو العقوبات التربوية کالضرب والتوبيخ والذم أو الجزاءات والغرامات , وما إليها ؛ أو کانت آجلة کالعقوبات الأخروية المتمثلة فيما أعد الله للعصاة من عقوبات متنوعة ؛ فهي روادع وزواجر تردع عن المضي في السلوک السيء وتزجر عنه ؛ وفيما يلي سنعرض لما في هذه السورة من مؤثرات سلبية في طبيعتها ؛ ولکنها إيجابية من حيث النتيجة المرغوبة التي تؤدي إليها ؛ وهي :

1-علم الله المحيط بعباده :

إن أسماء الله وصفاته عموماً تؤثر في المؤمنين بها ؛ فصفة الرحمة والرأفة مثلا تقوي رجاء عباده في عفوه , وصفة المغفرة تطمعهم في مغفرته , وصفة العزيز الجبار تخيفهم من عقوبته وانتقامه , وهکذا ؛ وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم کما في سور أخرى تکرار لذکر صفة علم الله وإحاطته بعباده , وهذا له ثمرة تربوية تحفيزية لا تخفى ؛ ومن ذلک قوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِکَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَکُمْ وَمَثْوَاکُمْ ) [ محمد : 19 ], وقوله : ( ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ کَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُکُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ) [ محمد : 26 ] , وقوله : ( وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاکَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَکُمْ  ) [ محمد : 30 ] , وقوله :  (  وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنکُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَکُمْ  )     [ محمد : 31 ] . إن علم الله الشامل للإنسان وما يحيط به , وما يصدر عنه , وما يفکر به وما يخفيه في سويداء قلبه , وما يکنه صدره , وما يسر وما يبطن يجعل الإنسان مکشوفا لعلم الله من کافة النواحي لا يستره عنه شيء البتة ؛ مهما حاول التخفي والتستر لفعل المعصية ؛ فهو مکشوف غير مستور , وعلم الله محيط به ؛ فإذا حل هذا الاعتقاد في القلب انبثق عنه شعور بالحياء من الله والخشية منه والخوف من عقابه ؛ فعلم الله زاجر للعبد عن المعصية ؛ فهو حافز سلبي من هذه الناحية ؛ أي أن المؤمن يکف عن المعصية , والکف عنها موقف سلبي  تجاه فعلها ؛ ولکن علم الله مؤثر إيجابي ؛ لأن هذا الکف مقصود ومطلوب ؛ ومع الخوف الذي يحدثه هذا العلم في نفس العبد فإنه کذلک يشعره بشيء من الأنس والاطمئنان ؛ فهو في رعاية الله ؛ وحول قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَکُمْ وَمَثْوَاکُمْ  )  يقول سيد قطب : " .. وحيث .. يشعر القلب المؤمن بالطمأنينة وبالخوف جميعا , الطمأنينة وهو في رعاية الله حيثما تقلب أو ثوى , والخوف من هذا الموقف الذي يحيط به علم الله ويتعقبه في کل حالاته ويطلع على سره ونجواه ... إنها التربية ؛ التربية باليقظة الدائمة والحساسية المرهفة والتطلع والحذر والانتظار .. " ( قطب , 1394 هـ , ج 6 , ص 3296 ) .

2-التوبيخ والإنکار :

ينکر تعالى في السورة على من أعرض عن تدبر آياته ؛ وذلک في قوله :  ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا  ) [ محمد : 24 ] ؛ فالهمزة في قوله :  ( أفلا يتدبرون ) للإنکار , وقوله : ( أم على قلوب أقفالها ) کما يقول الشنقيطي : أم بمعنى      " بل ؛ فقد أنکر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن بأداة الإنکار التي هي الهمزة , وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير ولا لفهم قرآن " ( الشنقيطي , 1403 هـ, ج 7 , ص  428 ) ,ثم يقول : " ومعلوم أن کل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم ؛ أي تصفحها وتفهمها وإدراک معانيها والعمل بها فإنه معرض عنها غير متدبر لها , فيستحق الإنکار والتوبيخ المذکور في الآيات"(الشنقيطي 1403 هـ , ج 7 , ص 429 ).

وهذا التوبيخ والإنکار على من أعرض عن کتاب الله وعن تدبر آياته قد ورد مثيل له في آيات أخرى في سور أخرى ؛ وهو أسلوب من أساليب الحفز التربوي التي تساق لإحداث استجابة سلبية مرغوبة تتمثل في الکف عن الفعل المستهجن المذموم هنا , وهو الإعراض عن تدبر کتاب الله وهجرانه والانشغال بغيره عنه .

3 – العقاب الدنيوي العاجل :

العقاب رادع ؛ والتهديد به رادع أيضاً ؛ وقد ورد في السورة التهديد للکافرين والمنافقين بعقوبات عاجلة في الدنيا قبل الآخرة , وهذا التهديد فيه تذکير واعتبار , وفيه تخويف للمخاطبين ؛ فيخاف منه من في قلبه شيء من الإيمان , ويعرض عنه ولا يتأثر به من خلا قلبه من الإيمان وحلت به الأهواء والشبهات وتلاعبت به الشهوات , والعقاب العاجل حافز ردعي على کل حال ؛ فهو من الحوافز السلبية , ومن التهديد الوارد في السورة بالعقاب العاجل ما يلي :

قوله تعالى : (  وَالَّذِينَ کَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ  ) [ محمد : 8 ] , قيل :  ( تعساً لهم ) أي : مکروهاً لهم , وقيل : بعداً لهم , وقيل خزياً لهم , وقيل شقاءً لهم , وقيل : شتماً لهم , وقيل : هلاکاً لهم , وقيل : خيبةً لهم , وقيل : قبحاً لهم , وقيل : رغماً لهم , وقيل : شراً لهم , وقيل : شقوةً لهم . ( الشوکاني , 1412 هـ , ج 5 , ص 46 ) .

وقال ابن الجوزي : " قال الفراء : المعنى : فأتعسهم الله , والدعاء يجري مجرى الأمر والنهي " . ( ابن الجوزي , 1407 هـ , ج 7 , ص 399 ) .

قوله تعالى : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا کَيْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْکَافِرِينَ أَمْثَالُهَا  ) [محمد : 10] , قوله : ( وللکافرين أمثالها ) تهديد للکافرين بأمثال تلک العقوبات التدميرية التي دمَر الله بها على الأقوام السابقة ؛ کما يقول بذلک أهل التفسير .

قوله تعالى : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِکْرَاهُمْ  )  [ محمد : 18] , وفيها تهديد بمباغتة الساعة لهم ؛ وقد قرب قيامها وجاءت علاماتها .

قوله تعالى : ( أُوْلَئِکَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ  )  [محمد : 23] , فيها تهديد باللعن والطرد من رحمة الله وسلب نعمة الاستماع للحق وإبصار دلائل الحق لکل من يعمل عمل هؤلاء الذين لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم . ( الشوکاني , 1412 هـ , ج 5 , ص 55 ) .

قوله تعالى : ( فَکَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِکَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ  ) [محمد : 27] هذا تهديد للمنافقين بأن موتهم سيکون عذاباً تضرب به وجوههم وأدبارهم من قبل الملائکة .

قوله تعالى : (  أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ  )     [محمد : 29] , فيها تهديد بفضح المنافقين وهتک أستارهم ونشر أحقادهم وضغائنهم ومؤامراتهم  .

قوله تعالى : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنکُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَکُمْ ثُمَّ لا يَکُونُوا أَمْثَالَکُمْ  )  [محمد : 38] , هذا تهديد بالإهلاک للمخاطبين إن ارتدوا وتولوا وأعرضوا عن هذا الدين وبأن يجيء الله بقوم غيرهم أفضل منهم . ( الطبري , 1408 هـ , ج 26 , ص 66 ) . إن کل تهديد في هذه الآيات هو حافز في ذاته يتضمن قوة ردعية زجرية کافية لمن وفقه الله وألقى السمع وهو شهيد .

4 – العقاب الأخروي :

العقاب الأخروي حافز رادع للنفس عن المضي في سلوکها المنحرف ؛ وأما الوعيد به فهو الأسلوب التربوي الذي يوظف العقاب من خلاله للتأثير التربوي الإيجابي کما سبق بيانه ؛ ومقتضى نصوص الوعيد أن الإثم أو المعصية يترتب عليه وقوع عقاب مناسب له سواءً کان کفراً أو نفاقاً أو کبيرةً من الکبائر , أو صغيرة , أو ما إلى ذلک ؛ کل ذنب بحسب وزنه وحجمه وتعلقه بحقوق الخالق , أو حقوق المخلوق , أو حقوق الخالق والمخلوق معاً ؛ ومن العقوبات الأخروية الزاجرة في سورة القتال ما يأتي :

  • · حبوط العمل ؛ وقد تکرر ذکره في السورة بصفته عقوبة لمن يؤدي أعمالاً نافعةً من غير أن يبني ذلک على قاعدة الإيمان والتوحيد الخالص ؛ فلا ينفعه عمله ذلک ؛ ففي الآية الأولى ذکر تعالى أنه أضل َ أعمال الذين کفروا ؛ ومعناه کما يقول ابن الجوزي : " أي أبطلها ولم يجعل لها ثواباً , فکأنها لم تکن , وقد کانوا يطعمون الطعام ويصلون الأرحام ويتصدقون ويفعلون ما يعتقدونه قربة " ( ابن الجوزي , 1407 هـ , ج 7 , ص 396 ) .

ثم تکرر ذکر المعنى بلفظ " وأضلَ أعمالهم " في الآية الثامنة , وفي الآية التاسعة قال تعالى : ( فأحبط أعمالهم ) , وفي الآية الثامنة والعشرين قال : ( فأحبط أعمالهم ) ثم قال في الآية الثانية والثلاثين : ( وسيحبط أعمالهم ) ؛ فحبوط العمل ومحقه جملة بحيث يأتي الکافر أو المنافق يوم القيامة صفر اليدين مما کان يظنه من أعمال الخير هو النتيجة الحتمية لمن لا يکون عمله في الدنيا مبنياً على أساس قوي من الإيمان بالله وتوحيده والإخلاص له جل وعلا . 

  • · حرمانهم من مغفرة الله لهم جزاء کفرهم به , وصدهم عن سبيله وإصرارهم على   الکفر ؛ قال تعالى : (  إِنَّ الَّذِينَ کَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ کُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ  )  [محمد : 34] .
  • · القرار في النار والخلود فيها , ومقاساة أنواع العذاب فيها ؛ يقول تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ کَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْکُلُونَ کَمَا تَأْکُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ )  [ محمد : 12]  ويقول : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن کُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ کَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ  ) [ محمد : 15 ] , وهذا بعض ما ينتظرهم في الآخرة من عقاب ؛ خلود في النار , وماء حميم يقطع الأمعاء من فرط حرارته ! إنه – ولا ريب – عقاب رادع زاجر لمن وفقه الله وهداه , فاحتاط لمصيره ومنتهاه .

 

ثالثا : المعوقات :

يقصد بالمعوقات هنا ما يعوق الإنسان عن الخير وفعله ؛ سواءً کان معوقاً خارجياً أو معوقاً ذاتياً نفسياً ؛ وکما أن الإنسان يتحفز إلى فعل الخير بفعل حوافز خارجية أو ذاتية ؛ فکذلک العوامل التي تفت في عزيمة الإنسان وتقعده عن الخير بعضها عوامل مثبطة خارجة عن ذاته , وبعضها الآخر مثبطات کامنة في نفسه ؛ والإنسان يحتاج إلى مجاهدة دائمة لنفسه حتى يتحرر من تأثير النوعين بقدر الإمکان , وإذا حاول ذلک بصدق ومثابرة واجتهاد أعانه الله سبحانه وتعالى ؛ کما قال عز وجل : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ )   [ محمد : 17 ] ؛ ومن المعوقات التي وردت الإشارة إليها في هذه السورة ما يأتي :

1 -الشيطان :

الشيطان خلق ممحض لفعل الشر والإغراء به ؛ وهو من عالم الغيب الذي يعد الإيمان بوجوده مما هو معلوم من الدين بالضرورة , وقد ورد التحذير من کيده في مواضع عديدة في کتاب الله ؛ ومنها ما أشار به سبحانه إلى تزيينه الکفر لبعض الناس وإغرائهم به فارتدوا بعد إيمانهم  ؛ حيث يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) [ محمد : 25 ] ؛ وسوَل لهم ؛ کما يقول الشنقيطي : " أي زيَن لهم الکفر والارتداد عن الدين " , وقال أيضاً : " سوَل لهم  ؛ أي سهَل لهم الکفر والمعاصي وزيَن ذلک وحسَنه لهم " ( الشنقيطي , 1403 هـ , ج 7 , ص 585 , 586 ) .

والشيطان في محاولته إغواء بني آدم مستمر على ذلک ؛ لا يکل ولا يمل , ويجلب على الناس بخيله ورجله ويشارکهم في الأموال والأولاد , ويعدهم وما يعدهم إلا غرورا ؛ کما أخبر عنه ربنا جل وعلا , وهو لا يکتفي بأن يکون معوقاً  للإنسان عن الخير ؛ فهو مع ذلک يزين له ويسهل له ارتکاب الشر والإثم والوقوع في المعصية والخروج من طاعة الله؛ بل الخروج على دين الله؛ وما دام هو مستمر في ذلک فالاعتصام بالله والاستعاذة به منه والحذر من کيده وإغوائه يجب أن يکون مستمراً کذلک.

2 – شياطين الإنس :

والمقصود بهم أعداء الله الذين يحاربون دينه ويصدون عن الحق ؛ والله سبحانه وتعالى قد خلق الناس وفطرهم على معرفته والميل إلى توحيده والاعتراف بربوبيته , وبعث إليهم رسله وأنزل شرائعه لدلالتهم عليه وتعريفهم بطريق عبادته على الوجه الذي يرضيه ؛ ولکن أعداء دينه من شياطين الإنس يعملون جاهدين في بث الشکوک والشبهات والإغراء بالشهوات , وقصدهم صرف العباد عن عبادة ربهم ؛ يقول تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ کَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ کُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) [ محمد : 34 ] , يقول السعدي رحمه الله تعالى في تفسيرها : ( وصدوا ) ؛ أي : صدوا الخلق (عن سبيل الله)  " بتزهيدهم إياهم بالحق , ودعوتهم إلى الباطل وتزيينه " (السعدي , 1421 , ص 790) ؛ فهذا هو ديدنهم في کل زمان ومکان ؛ تتابعوا على ذلک أجيال بعد أجيال , وقد تطورت أساليبهم وطرقهم في العصر الحديث بسبب تطور وسائل الاتصالات وتقنيات الإعلام وغيرها ؛ وکم ضاع بسبب جهودهم من أناس ؛ وکم فسد بسببهم من نفوس وبيوت ومجتمعات ؛ فهم معوق عن الخير داع إلى الشر ؛ وقد حذرنا الله منهم ومن کيدهم في کتابه في مواضع منها هذه الآية .

3 –  اتباع الباطل :  

کما أن اتباع الحق يجر إلى مزيد من الخير والعلم ؛ فکذلک اتباع الباطل يجر إلى مزيد من الضلال والزيغ ؛ کما قال تعالى : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْکَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِکَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِکَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ . وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ  ) [ محمد : 16 , 17 ] , وهنا فرق بين الحالين والمآلين ؛ وکل مآل بحسب حال صاحبه , وحال اتباع الهوى والباطل يناسبه مآل الطبع على القلب والضلال عن الحق , والعکس کذلک , وهذا المعنى الموجود في هذه السورة له نظائر في سور أخرى ؛ منها قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْکُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ  )  [ الصف : 5 ] , وقوله عن المنافقين : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنکَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ التوبة : 67 ] , وآيات أخرى ؛ وقد عقد الإمام ابن القيم  رحمه الله فصلاً في کتابه الفوائد بعنوان : " فصل : الهداية تجر الهداية , والضلال يجر الضلال " وقرَر هذين الأصلين وبيَنهما بياناً جلياً مستدلاً على کل منهما بآيات کثيرة .    ( ابن القيم , د ت , ص  115 و ما بعدها ) .

وما دام أن اتباع الباطل يجر إلى الضلال فهو عائق من العوائق التي تعوق عن معرفة الخير والوصول إليه , ويعوق بالتالي عن فعل الخير والقيام به .

4 – اتباع الهوى :

ورد اتباع الهوى في السورة في موضعين على سبيل الذم والعيب ؛ وهما قوله تعالى :    ( أَفَمَن کَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ کَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ) [ محمد : 14 ] وقوله : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْکَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِکَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِکَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ) [ محمد : 16 ] , وفي معناها يقول ابن الجوزي : ( کمن زين له سوء عمله ) يعني عبادة الأوثان وهو الکافر ( واتبعوا أهواءهم ) : أي بعبادتها "  ( ابن الجوزي , 1407 , ج 7 , ص 400 ) .

ويقول ابن جرير : ( واتبعوا أهواءهم ) يقول : " وابتغوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله وعبادة الأوثان من غير أن يکون عندهم بما يعملون من ذلک برهان وحجة " , ( الطبري , 1408 هـ ,  مجلد 13 , ج 26 , ص 48 ) .

والآية الأولى في المشرکين والثانية في المنافقين ؛ ويقول ابن جرير : "وسوَى جلَ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشرکين في أن جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله الذي ابتعث به محمداً صلى الله عليه وسلم أهواءهم.." . (الطبري , 1408 هـ ,  مجلد 13 , ج 26 , ص49)  .

فاتباع الهوى ضلال وانقياد إلى رغبات النفس وما تهواه حتى لو کان ذلک مخالفاً لمراد الله وما أمر به من أوامر ؛ وهو من سلوک المنافقين وصفاتهم , وهو عائق من العوائق التي يجب الحذر منها ؛ فالنفس دائماً تتمنى وتشتهي , وقد يکون ذلک معصية لله ؛ فعندما تحقق لها هذه الأمنيات والشهوات التي لا تتحقق إلا بمعصية الله فذلک اتباع للهوى المذموم فيجب على المرء عرض ما تتمناه النفس وتشتهيه على شرع الله فإن وافقه حققه لها ؛ وإن کان ذلک في مخالفته فطمها عما تشتهيه وتتمناه , وبذلک يمکن له أن يتحرر من هوى نفسه , وهو بحاجة دائمة إلى هذه المجاهدة . 

5 – کره الدين الحق :

حينما ذکر تعالى الکفار وأعمالهم السيئة من الکفر بالله والصد عن سبيله واتباعهم الباطل وذکر شقاءهم وتعسهم وضلال أعمالهم عقَب على ذلک بقوله : ( ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ  )  [ محمد : 9 ] , فالکراهية لما أنزل الله من قرآن تحول بين المرء الکاره وبين الاستفادة من حقائق القرآن ومواعظه ومؤثراته ؛ بل تحول بينه وبين فهمها وفقه مضمونها ؛ بل إنها تمنعه حتى من مجرد الاستماع إلى ما أنزل الله بإقبال وتجرد ؛ والقلب ليس فيه مکان للشيء وضده ؛ فإذا تعلق بالباطل وأحبه کره الحق ونفر منه ؛ وهذه حال کثير من الخلق تعوقهم کراهيتهم للدين عن تقبل الحق والإذعان له ؛ يقول سيد قطب حول الآية : " وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الکراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه , وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الکفر والعناد والخصومة والملاحاة . وهي حالة کثير من النفوس الفاسدة التي تکره بطبعها ذلک النهج السليم القويم وتصادمه من داخلها بحکم مغايرة طبيعتها لطبيعته , وهي نفوس يلتقي بها الإنسان کثيراً في کل زمان وفي کل مکان , ويحس منها النفرة والکراهية لهذا الدين وما يتصل به ؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذکره کما لو کانت قد لدغتها العقارب ! وتتجنب أن يجيء ذکره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث ! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة ! " ( قطب , 1394 هـ ,  ج 6 , ص 3289 ).

وقد شاهد سيد قطب حالة من هذا الطراز في أيامه , والآن يشاهد الناس حالات مشابهة في أيامنا هذه ؛ والله المستعان .

6 – مرض القلوب :

القلوب هي موضع اليقين والإيمان ؛ وإذا تزعزع الإيمان في القلب  وحل محله الشک والارتياب فإن القلب في هذه الحالة يکون قد تحول من أن يکون " قلباً سليماً " إلى أن يکون " قلباً سقيماً " ؛ وليس هذا مثل ذاک ؛ ولا مساواة ؛ بل ولا مقاربة , وقد ذکر تعالى في هذه السورة مرض القلوب وصفاً للمنافقين في موضعين ؛ فقال في الموضع الأول : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْکَمَةٌ وَذُکِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْکَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ  ) [ محمد : 20] , وقال في الموضع الثاني : (  أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ  )  [ محمد : 29 ] ؛ وجاء في تفسير المرض عند ابن جرير في الموضعين بأنه الشک في الدين ؛ فقال بالنسبة للآية الأولى : " يقول رأيت الذين في قلوبهم شک في دين الله وضعف .. " , وقال بالنسبة للآية الثانية : " يقول تعالى ذکره أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شک في دينهم وضعف في يقينهم ؛ فهم حيارى في معرفة الحق أن لن يخرج الله ما في قلوبهم من الأضغان على المؤمنين فيبديه لهم ويظهره حتى يعرفوا نفاقهم وحيرتهم في دينهم .. " ( الطبري , 1408 هـ ,  مجلد 13 ,ج 26 , ص 54 , 60 ) .

و ( أضغانهم ) هي کما يقول ابن کثير : " جمع ضغن , وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره " ( ابن کثير , 1421هـ , ص 1266 ) .

ومرض القلوب هو الشک والارتياب ؛ وهو النفاق إذا حل في القلب فيظهر أثره على الجوارح , وعلى فلتات اللسان , وفي اتخاذ المواقف المخالفة لأهل الحق , والمعادية لهم عداءً مبطناً ؛ ولکنه يظهر على السلوک الظاهري حسداً وحقداً وضغينةً وتخذيلاً وتفريقاً للصفوف في مواقف الجد ونکوصاً عن مواطن الجهاد ومقاتلة الأعداء .

7 – الطبع على القلوب :

الطبع على القلوب عقوبة يعاقب بها الله سبحانه وتعالى بعض عباده الذين يتنکبون صراطه المستقيم , وذلک أن من أسباب الطبع على القلوب تکاثر الذنوب ومقارفة المعاصي والتهاون في الطاعات والواجبات ؛ ومن الأدلة على ذلک قوله صلى الله عليه وسلم : ( من ترک الجمعة ثلاث مرات متواليات من غير ضرورة طبع الله على قلبه ) رواه أحمد في مسنده   ( ابن حنبل , 1402 هـ , ج 3 , ص 232 ) , وصححه الألباني ( الألباني , 1388 هـ , ج 5 , ص  268 ) .

وکما أنه سبحانه يجازي على الحسنة بأحسن منها ؛کما في قوله : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ  )  [محمد : 17] ؛ حيث أن من قصدوا الهداية بإخلاص وعملوا لأجل تحصيلها يثيبهم الله زيادة في الاهتداء والتقوى ؛ فکذلک من استهانوا به وصدوا عن شريعته وارتابت قلوبهم وشکوا في وحدانيته يجازيهم بالطبع على قلوبهم ؛ يقول سبحانه : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْکَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِکَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِکَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ  )  [محمد : 16] , لم يکترثوا لما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهتموا به فعوقبوا ببلادة العقول وقلة     الفهم ؛ يقول ابن کثير : " يقول تعالى مخبراً عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث کانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون کلامه فلا يفهمون منه شيئاً فإذا خرجوا من عنده ( قالوا للذين أوتوا العلم ) من الصحابة رضي الله عنهم ( ماذا قال آنفا ) أي الساعة , لا يعقلون ما قال ولا يکترثون له ( أولئک الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) : أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح " , ( ابن کثير , 1421 هـ , ص 1264 ] . فنتيجة الطبع انعدام الفهم الصحيح ؛ إذ الطبع ختم على القلوب ؛ کما ورد عند ابن جرير في تفسير قوله ( أولئک الذين طبع الله على قلوبهم ) قال : " يقول تعالى ذکره هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم فهم لا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام " ( الطبري , 1408 هـ ,  مجلد 13 ,ج 26 , ص 51 ) .


8 – الإقفال على القلوب ( انقفال القلوب ) :

وهو حالة تعتري القلب فيصبح مقفولاً عليه لا يدخل فيه خير ولا يخرج منه الشر الذي قد انطوى عليه سابقاً من کفر أو نفاق أو شک أو ريب وغيره ؛ وقد ورد ذکر   هذه الحالة في هذه السورة ؛ حيث يقول سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )  [محمد : 24] , ويرى بعض المفسرين أن المقصود بالإقفال هو الطبع ؛ کما نقل الشوکاني ذلک عن مقاتل ؛ يقول الشوکاني : " .. قال مقاتل : يعني الطبع على القلوب , والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق , وإضافة الأقفال للقلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب , ومعنى الآية : أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الکفر والشرک ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد طبع عليها .. " , ( الشوکاني , 1412 هـ , ج 5 , ص 55 , 56 ) .

ويرى مفسرون آخرون أن الإقفال أشد من الطبع , وأنه حالة انغلاق مستعصية عن قبول الحق ؛ کما نقل ذلک ابن الجوزي عن مجاهد في تفسيره للآية : " .. وذکر الأقفال استعارة , والمراد أن القلب يکون کالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى ؛ قال مجاهد : الران أيسر من الطبع , والطبع أيسر من الإقفال , والإقفال أشد ذلک کله .. " ( ابن الجوزي , 1407 هـ , ج 7 , ص 408  ) .

وسواء کان الطبع والإقفال حالة واحدة أو حالتين متفاوتتين فإن القلب في أي منهما يکون واقعاً تحت تأثير عائق کبير يعوق عن معرفة الحق وقبوله ؛ وهي حالة من الحالات المرضية التي تمر بالقلب أو تستمر معه فتمنعه عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر .

9 – طول الأمل :

طول الأمل من المعوقات ؛ لأنه يکون مدعاة للتسويف , والتسويف مضيعة للأوقات والطاقات , والأوقات هي الأعمار , وما يمضي منها لا يعود فهو ضائع , وکذلک الطاقات کطاقة الشباب أو القوة البدنية أو المادية أو غيرها لا تستمر في البقاء ؛ وإنما هي زائلة تنقضي , وما فات منها لا يمکن تدارکه ؛ فتکون ذاهبة بغير فائدة أو ذاهبة في معصية , ومع أن الأمل في أصله عند الإنسان فطرة فطره الله عليها لکي يدفعه به إلى عمارة الکون والاستفادة مما سخر الله له من کنوز الأرض وثرواتها ؛ إلا أن الإنسان لا يدري متى ينقضي أجله ؛ فيذهب إلى ما قدم من عمل صالح أو فاسد ؛ ولذلک فإن استحضار هذه الحقيقة والحيطة من وقوع الأجل قبل حصول الأمل مما يدفع إلى العمل , وقد نبه إلى هذه الحقيقة رسولنا الکريم صلوات الله وسلامه عليه فيما أخرجه البخاري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً , وخط خطاً في الوسط خارجاً منه , وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط , من جانبه الذي في الوسط , وقال : هذا الإنسان وهذا أجله محيط به , أو قد أحاط به , وهذا الذي هو خارج أمله , وهذه الخطط الصغار الأعراض , فإن أخطأه هذا نهشه هذا  ) ( البخاري , 1401 هـ , ج 7 , ص 171 ) , وفي کتاب أمثال الحديث للرامهرمزي : ( .. هذا الإنسان , وهذا الأجل , يتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون الأمل ) ( الرامهرمزي , 1388 هـ , ص 114 ) .

فقد کان عليه الصلاة والسلام يحذر من أن يختلجنا الأجل قبل بلوغ الأمل . ومعنى ذلک أن التمادي في الآمال والانسياق وراءها يتسبب في الفتور والتراخي عن فعل الخير ؛ وفي قوله تعالى : (  إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ  )  [ محمد :25] ما يدل على ذلک ؛ فقوله : ( وأملى لهم ) ؛ أي : " مدَ لهم في الآمال والأماني " کما يقول الزمخشري , ويقول الشنقيطي : " وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل .. " , ويقول : " لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتکاب الکفر والمعاصي " ( الشنقيطي , 1403 هـ , ج 7 , ص 585 ) .

ويقول : " ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار , کما قال تعالى :   (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) , وقيل إن الضمير في قوله : (وأملى   لهم) عائد إلى الله ؛ والمعنى هو أملى لهم , أي أمهلهم إمهال استدراج " , والله أعلم . (الشنقيطي , 1403 هـ , ج 7 , ص 586) .

وفي کلتا الحالين فإن " الإملاء " يتسبب في طول الآمال والأماني ؛ وهو معوق من المعوقات النفسية . ويقول السعدي وهو في معرض تفسيره لقوله تعالى :  (  وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْکَمَةٌ وَذُکِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْکَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ . طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَکَانَ خَيْرًا لَّهُمْ  ) [محمد : 20 , 21] : إن المرء " إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ضعف عن العمل بوظيفة وقته وبوظيفة المستقبل , أما الحال فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره , والعمل تبع للهمة , وأما المستقبل فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه " , ويقول : " إن العبد المؤمل للآمال المستقبلة مع کسله عن عمل الوقت الحاضر شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته على ما يستقبل من أموره فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هم به ووطن نفسه عليه , فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفکرته ونشاطه على وقته الحاضر , ويؤدي وظيفته بحسب قدرته , ثم کلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة مستعيناً بربه في ذلک , فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره " ( السعدي , 1421 هـ , ص  788 ) .

10 – الوهن والضعف :

الوهن ضعف وتخاذل نفسي ينتقل أثره إلى سلوک الإنسان وحرکته الفعلية فيصيبها الشلل أو العجز , وقد حذرنا تعالى من الوهن في قوله سبحانه : ( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَکُمْ وَلَن يَتِرَکُمْ أَعْمَالَکُمْ  )  [محمد : 35] , والوهن کما يقول الشوکاني : ( فلا تهنوا ) ؛ " أي تضعفوا عن القتال , والوهن الضعف " ( الشوکاني , 1412 هـ , ج 5 , ص 59 ] , ويقول ابن جرير ( فلا تهنوا ) : " يقول تعالى ذکره فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشرکين وتجبنوا عن قتالهم " ( الطبري , 1408 هـ ,  مجلد 13 ,ج 26 , ص 63 ) .

وهذا المعنى ذکره کثير من المفسرين , والوهن من العوائق النفسية التي يمتد أثرها ليشل السلوک الحرکي ؛ وقد نهانا الله عن أن نتصف بالوهن مذکراً لنا جل وعلا بالمقومات التي ترتفع بنا عن ذلک بقوله :( وأنتم الأعلون والله معکم ولن يترکم أعمالکم) .


11 – البخل :

من فعل الخير البذل في سبيل الله والبذل ابتغاء وجه الله , ووجوه البذل في هذا الميدان کثيرة ؛ ويعوق الإنسان في کثير من الأحوال عن هذا الخير الشح والبخل ؛ إذ هو من المعوقات الکبيرة ؛ حيث يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )  [ الحشر : 9 ] , وفي هذه السورة تحذير من هذا العائق ؛ يقول جل وعلا : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنکُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَکُمْ ثُمَّ لا يَکُونُوا أَمْثَالَکُمْ  )  [محمد : 38] , فما يعوق عن النفقة في سبيل الله إنما هو البخل کما في هذه الآية , والنتيجة أن من يبخل بماله فلا يبذله إنما يبخل على نفسه بالثواب فلا يحصل عليه .

12 – الخوف والجبن :

کما أن البخل عائق عن بذل المال ابتغاء وجه الله ؛ فکذلک الجبن عائق عن بذل الجهد والروح في سبيل الله ؛ وهو عائق يرتبط بضعف الإيمان , وهو من صفات المنافقين ؛ کما ذکر الله  تعالى بقوله :  ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْکَمَةٌ وَذُکِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْکَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ  )  [ محمد : 20] , والخطاب في قوله تعالى : ( ينظرون إليک ) موجه للنبي صلى الله عليه وسلم , ويقول ابن جرير في معنى قوله : ( نظر المغشي عليه من الموت ) : " خوفاً أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين , فهم خوفاً من ذلک وتجبناً عن لقاء العدو ينظرون إليک نظر المغشي عليه الذي قد صرع ؛ وإنما عنى بقوله ( من الموت ) من خوف الموت , وکان هذا فعل أهل النفاق " ( الطبري , 1408 هـ ,  مجلد 13 ,ج 26 , ص 54 ) وقال ابن کثير : ( نظر المغشي عليه من الموت ) " أي : من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء " ( ابن کثير , 1421 هـ , ص 1265 ) .

وهم لا يکتفون بذلک ولکنهم يخذلون ويرجفون ويثبطون وينشرون الشائعات المخذلة والأخبار المحبطة لغيرهم ؛ بل ويشقون الصف ويضمرون الوقيعة بالمسلمين ويتربصون بهم الدوائر ( عليهم دائرة السوء ) , وهم هم يتتابعون على هذه الأنماط السلوکية المخزية في کل جيل , وقد فضح الله نفاقهم ومؤامراتهم في مواضع من کتابه في سورة التوبة وغيرها , رد الله شرورهم إلى نحورهم .

نتائج البحث :

يتبين من خلال العرض السابق للسورة وما فيها من معاني ومضامين ودروس تربوية , ومن خلال تحليل ما أوردته کتب التفسير حول المعاني والمفاهيم والأقوال ذات العلاقة بالمؤثرات التربوية يمکن إجمال أهم النتائج المستخلصة من ذلک فيما يأتي :

1. سورة محمد من السور القصيرة نسبيا ؛ فهي ثمان وثلاثون آية في ورقتين ؛ أي  أربعة أوجه فقط ؛ ومع ذلک فإنها تضمنت من المفاهيم والمضامين والمؤثرات الإيجابية والسلبية الشيء الکثير ؛ منه ما عرضته الدراسة , ومنه ما لم تتطرق إليه , وربما يتصدى له باحثون آخرون عاجلا أو آجلا .

2. من المؤثرات الإيجابية في السورة الإيمان , والخطاب المحبب للمؤمنين بصفة الإيمان فيهم , واتباع الحق , والعمل الصالح , والتقوى , والشهادة في سبيل الله , والثواب العاجل في الدنيا , والثواب الأخروي .

  1. من المؤثرات السلبية المنطوية على الردع والزجر في السورة علم الله المحيط بعباده , التوبيخ والإنکار , العقاب العاجل في الدنيا , والعقاب الأخروي .

4. من الثواب الدنيوي العاجل في السورة إصلاح البال للمؤمنين , ونصر الله للمؤمنين وتثبيت أقدامهم , وزيادة المهتدين هداية وتقوى , ومعية الله لعباده المؤمنين بالتوفيق والتسديد والرعاية , وتوفيته جل وعلا لأعمال عباده وعدم نقصان أجورهم .

  1. من الثواب الأخروي في السورة تکفير السيئات , والمغفرة من الله , وإيتاء المؤمنين أجورهم , والجنة وهي الحافز الأکبر , وما فيها من أنواع النعيم .

6. من العقاب الدنيوي  العاجل في السورة التعس للکافرين , وإضلال الأعمال , والتهديد بالعقاب التدميري العاجل لهم , والتهديد بمباغتة الساعة لهم , والتهديد باللعن والطرد والإبعاد وحرمانهم من نعم السمع والبصر , والتعذيب عند الموت بضرب الوجوه والأدبار من قبل الملائکة , والتهديد بفضح المنافقين وهتک  أستارهم , ثم التهديد للمخاطبين بالإهلاک إن ارتدوا وتولوا وأعرضوا واستبدالهم بخير منهم .

  1. من العقاب الأخروي في السورة حبوط العمل , وحرمانهم من المغفرة , والقرار في نار جهنم , والخلود فيها , مع ما فيها من أنواع العذاب .

8. من المعوقات التي تعوق وتثبط عن فعل الخير المذکورة في السورة الشيطان , وشياطين الإنس واتباع الباطل , واتباع الهوى , وکره الدين الحق , ومرض  القلوب , والطبع عليها , والإقفال عليها , وطول الأمل , والوهن والضعف , والبخل , والخوف والجبن .

وفي ختام هذا البحث نحمد الله تعالى , ونسأله أن يوفق الجميع للعلم بکتابه والعمل به ؛ إنه ولي ذلک والقادر عليه , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

  1. مراجع البحث

    1. الشامي , صالح بن أحمد . التربية الجمالية في الإسلام , بيروت : المکتب الإسلامي , 1408 هـ
    2. الشنقيطي , محمد الأمين المختار الجکني . أضواء البيان , الرياض : الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد , 1403 هـ .
    3. ابن القيم , محمد بن أبي بکر . الفوائد , القاهرة : المکتبة القيمة , د. ت. .
    4. ابن القيم , محمد بن أبي بکر . الرسالة التبوکية ( زاد المهاجر إلى ربه ) جده : دار المدني , 1406 هـ .
    5. الشوکاني , محمد بن علي . فتح القدير , بيروت : دار الفکر , 1412 هـ .
    6. قطب , سيد . في ظلال القرآن , بيروت : دار الشروق , 1394 هـ .
    7. ابن کثير , إسماعيل بن عمر  . تفسير القرآن العظيم , الرياض : دار السلام , 1421 هـ .
    8. الطبري , محمد بن جرير . جامع البيان عن تأويل آي القرآن , بيروت : دار الفکر , 1408 هـ
    9. السعدي , عبد الرحمن بن ناصر . تيسير الکريم الرحمن في تفسير کلام المنان , بيروت : مؤسسة الرسالة , 1421 هـ .
    10. ابن الجوزي , عبد الرحمن بن علي . زاد المسير في علم التفسير , بيروت : المکتب الإسلامي , 1407 هـ .
    11. ابن حنبل , أحمد بن محمد . المسند , استانبول : دار الدعوة ( تصوير عن طبعة  الحلبي )  1402 هـ .
    12. الألباني , محمد ناصر الدين . صحيح الجامع , بيروت المکتب الإسلامي , 1388 هـ .
    13. البخاري , محمد بن اسماعيل . الجامع الصحيح , استانبول : دار الدعوة , 1401 هـ .
    14. الرامهرمزي , الحسن بن عبد الرحمن . کتاب أمثال الحديث ( تحقيق أمة الکريم القرشية )  ,  حيدر أباد : مطبع الحيدري , 1388 هـ .
    15. الألباني , محمد ناصر الدين . صحيح سنن الترمذي , الرياض : مکتب التربية العربي لدول الخليج , 1408 هـ .
    16. الألباني , محمد ناصر الدين . صحيح سنن ابن ماجة , الرياض : مکتب التربية العربي لدول الخليج , 1407 هـ .
    17. جلو , الحسين جرنو محمود . أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الکريم , بيروت : مؤسسة الرسالة , 1414 هـ .
    18. السعدي , عبد الرحمن بن ناصر . تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن , عنيزة : مرکز صالح بن صالح الثقافي , 1420 هـ .
    19. محمود , علي عبد الحميد . التربية في القرآن الکريم , القاهرة : دار التوزيع والنشر الإسلامية , 1417 هـ .
    20. المقري , أحمد محمد . تربية النفس الإنسانية في ظل القرآن الکريم , جده : دار حافظ , 1409هـ .
    21. النحلاوي , عبد الرحمن . التربية بالآيات , بيروت : دار الفکر المعاصر , 1409 هـ .