موقف النحات المصري المعاصر من العولمة *

المؤلفون

1 طالبة ماجستير بقسم التربية الفنية کلية التربية النوعية ـ جامعة المنصورة

2 أستاذ النحت المساعد ووکيل کلية رياض الأطفال لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة ـ جامعة المنصورة

3 مدرس النحت والخزف بقسم التربية الفنية کلية التربية النوعية ـ جامعة المنصورة

المستخلص

ملخص
استهدفت الدراسة التعرف على موقف النحت المصري المعاصر من العولمة وأثرها على هويته، وما العلاقة المشـترکة بين العولمة والنحت ، والعولمة والتراث الفني .
وتناولت الدراسة ماهية ( العولمة Globalization ) ومفهومها عند علماء السوسيولوجيا ، والأنثروبولوجيا ، والمفکرون ، کما تعرضت الدراسة لعلاقة النحت المصري المعاصر بالعولمة . وتطرقت أيضاً لدراسة قيمة الموروث الفني وهوية النحت المصري المعاصر ، کما تعرضت الدراسة لإلقاء الضوء على واقع النحت المصري المعاصر في عصر العولمة .
وخلصت الدراسة إلى نتيجة هامة وهي أن العولمة واقع لا يجدي معه أسلوب الرفض ، أنه تيار بدأ بالمجال الاقتصادي وامتد إلى المجال الثقافي ومنه إلى الفن التشکيلي وهذا الواقع يعد حقيقة ماثلة أمام النحات لا مجال لإنکارها . ولا يجوز للنحات أن يتجاهل أننا لا نعيش وحدنا في هذا العالم . وأننا نعيش الآن في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات ، والثورة التکنولوجية وفي عصر السماوات المفتوحة  وهذا يعني أنه لا مجال للنحات للانعزال أو التقوقع .
کما توصلت الدراسة إلى أن الهوية الفنية لشعب ما ، هي الطاقة الکامنة في وجدانه والتراث ما هو إلا أحد المثيرات الفعالة في تحريکه وتذکيره بماضيه لکي لا يضل الطريق … أو لا ينحرف عن المـسيرة الحقـيقية لرغبات النحات .

الموضوعات الرئيسية


مقدمة :

شاع مؤخراً استخدام بعض المصطلحات مثل " العولمة " أو " الکونية " أو " الهيمنة " کما شاع أننا وصلنا إلى نقطة حاسمة في التاريخ البشري تتحدد بانتصار النظام الليبرالي والنظام الديمقراطي  من النمط الغربي على سائر النظم المنافسة لها.

وعلى أية حال فالعولمة ذاتها والتي فاجأتنا في عالم العرب ليست ظاهرة معاصرة مفاجئة ، بقدر ما هي ظاهرة تاريخية ، وهذا ما ثبت للباحثان من خلال تلک الدراسة ، وسنوضـحه لاحقاً ، ولعلنا هنا يجـب أن نوضح أن مصطلح کلمة  العولمة ( Globalization ) کان أول ظهور له في التسعينات من القرن الماضي .

وأصبح من الواضح أن معظم التحولات الثقافية والاقتصاديـة والسياسيـة والعلمية … إلخ المذهلة والمتصارعة التي يشهدها العالم ، لها تأثير کبير على النحت والنحات ، فالتيارات التي غمرت ساحة الإبداع الفني في السنوات الثلاثين الأخيرة أوجدت معاييرأً مخالفة في اللغة الجمالية وأحدثت الاطروحات البصرية انقلاباً أفقياً في أنساق الفکر الفني لقطبي الفعل الابداعى المبتکر  (الفنان ، والمتلقي) فالفن والرؤيا الجمالية والاستمتاع والتذوق الفنى هو لغة بين وجدان يبدع ووجدان انسانى يتلقى ويتذوق.

لذلک تتطرق الدراسة إلى ماهية  العولمة ( Globalization ) ومفهومها عند علماء السوسيولوجيا ، والأنثروبولوجيا ، والمفکرون ، وتبحث الدراسة في علاقة النحت المصرى المعاصر بالعولمة . کما تتطرق الدراسة إلى البحث في مدى ارتباط النحت بالموروث الفني ، وهوية النحت المصري المعاصر وواقعه في عصر العولمة .

ماهية العولمة Globalization :

ما هي العولمة ( Globalization ) وحقيقتها في الفن التشکيلي ؟ ليس المقصود هنا سؤلاً أکاديمياً ، تکون إجابته استعراضاً موسعاً لما قاله هذا أو ذاک من علماء السوسيولوجيا والأنثربولوجيا ، رغم أهمية ما قالوا ، بقدر ما هو محاولة البحث عن إجابة بسيطة تنفذ إلى عمق المفهوم ، إن صح التعبير ، بعيداً عن تجريدات العلماء والمتخصصين . فالتجريد ، وإن کان مهماً في بناء النظريات، إلا أنه کثيراً ما يبعد الأنظار عن المعنى الأساسي والبسيط للمفاهيم ونشأتها ، ويتحول التجريد إلى غايـة بذاته ، وهو الوسيلة ابتداءاً ، هذا لا يعني أن التعريفات التجريدية لا تعبر عن واقـع الحال ، ولکنه يعني الانشغال بعملية التجريد ذاتها ، لدرجة نسيان واقع الحال .

رغم وجود بعض الملامح المحددة للمفهوم الجديد للعالمية ، لا يزال هناک خلاف حاد حول تعريفه الدقيق ، فبينما يرى البعض العولمة أو العالمية تعني التغريب ( Westernization ) للعالم بأسره ونقل الثقافة والحضارة ونمط التنمية الغربي إلى کافة دول العالم باعتباره النمط الأمثل ، يراها البعض الآخر مجرد غطاء لتحقيق مزيد من تنامي الرأسمالية وتوليد هيمنة متزايدة ، تخدم في المقام الأول مصالح القوى الکبرى والمؤسسات غير الوطنية ([1]) .

فالعولمة ( Globalization ) ، " للتفرقة بينها وبين (أيديولوجيا) العولمة ، أو العولمانية (Globalism) إذا صح التعبير ، هي ببساطة هذه الزيادة المتنامية في وتيرة التداخل بين الجماعات والمجتمعات البشرية في هذا العالم" ([2]) . ويبدو هذا التداخل أکثر وضوحاً على صعيدي الاقتصاد والإعلام ولکن لا يقل عن ذلک شأناً في الفن التشکيلي فلا يمکن الحديث عن نحت منعزل حتى لو کان في مجاهل الأمازون کما لا يمکن الحديث عن حدود سياسية قادرة على الحماية المطلقة للدولة  في ظل تحول العالم إلى مساحة إعلامية واحدة ، بفضل ثورة المعلومات والاتصالات . والشيء ذاته ينطبق على الفن التشکيلي  بصفة عامة وعلى النحت بصفة خاصة  .

والعولمة Globalization) ) في قاموس أکسفورد ( Oxford) " تعني التغطية والتأثير على کل العالم "([3]).

 وورد تعريف آخر في قاموس وبسترز ( Webster’s) للعولمة بمعنى " إکساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقـه عالمياً " ([4]) .

ويؤکد بيرر ( Heinrich Von Pierer) وهنتجتون (Samuel P. Huntington و فوکوياما (Francis Fukuyama ) وهم من رافعي راية العولمة  إنما يحاولون بما يختارون من عبارات وصور الإيحاء بأن الأمر يتعلق بحدث شبيه بالأحداث الطبيعية التي لا قدرة لنا على ردها والوقوف بوجهها ، أي أنها نتيجة حتمية لتطور تکنولوجي واقتصادي ليس بوسعنا إلا الإذعان له . وإذا کان العالم يقبل مبادئ العولمة الأساسية من الإقرار بحقوق الإنسان والديمقراطية والوحدة، فإن الفن والفنان يسعيان دائماً لانتصار هذه المبادئ الراقية کما يسعيان لبثها في المجتمعات المختلفة بلغة بصرية واحدة .

ويعرف انتوني جيدنز( Antoni Giddens ) العولمة بأنها مرحلة جديدة من مراحل تطور الحداثة ، تتکثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي ، حيث يحدث تلاحم غير قابل للفصل بين الداخل والخارج ، ويتم فيها ربط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وإنسانية ([5]) .

کما أن مفهوم العولمة عند  انتوني جيدنز( Antoni Giddens ) يؤکد أن مفاهيم العولمة المتغايرة لا تجعلنا نتمسک بتفسير شکلي بعينه ، کذلک فإن التطور في الفنون التشکيلية تجعلنا لا نتمسک بشکل معين تنتمي إليه الحرکات الفنية خاصة في عالمنا الثالث.

ويصف  رونالد روبرتسون  Ronald Robertson) ) العولمة بأنها " تطور نوعي جديد في التاريخ الإنـساني ، بعد أن أصـبح العالم أکثر ترابطاً ، أکثر انتشاراً  ([6]) .

فعلى کثرة التعريفات التي تطلق على العولمة ، فإنه لا يتبقى أمامنا غير تعريف واحد لا يحتاج إلى جهد کبير للحاق به فالعولمة هنا تعني عبارة Globalization أي (الأمرکة) بکل وضوح ([7]) .

وعلى أية حال إذا نظرنا إلى مختلف تعريفات مفهوم العولمة الذي أورده معظم علماء الاجتماعيات لاستطعنا معرفة المقصود الأشمل لها وهو صبغ العالم بصبغة واحدة في أي مجال من مجالات الفنون أو غيرها ، بمعنى أن يتقارب البشر وتذوب بينهم الفوارق في الفکر واللغة والمعتقدات وفي أشکال الأزياء وصور التبادل الثقافي للفنون والحضارات … إلخ .

ورغم أن العولمة تتخذ أبعاداً کثيرة ، فما يهمنا منها هنا أنها تتخذ شکل الهيمنة والتبعية بشکل يسعى إلى التنميط ([8]) . ولقد أسهمت التحولات التکنولوجية والتدفق الغزير في المعلومات في التوجيه نحو العولمة ومن ثم في إحداث تغير في المفاهيم والأفکار والتقنيات المتعلقة بين النحات والعمل الفني والنحات والجمهور والنحات والذوق العام .

إذ تعني العولمة في مفهومها البسيط إزالة الحدود المعرفية والعلمية بين الدول القومية ليکون العالم أشبه ما يکون بسوق موحد کبير تضم عدة أسواق ذات خصائص ومواصفات تعکس خصوصية أقاليمها على جانب ، کما تعکس المتطلبات التي يفرضها التکامل العلمي والمعرفي على جانب آخر .  ولابد أن نعترف بأن الدخول في العولمة ، وعولمة الفن التشکيلي المصري لم يعد خياراً وإنما يعد ضرورة يفرضها الواقع والتــطور العلمي والتـکنولوجي ، بل ومصــلحة الفن والفنان ذاته .

ومن الواضح أن العولمة تشتمل على عناصر جوهرية ، کما تشتمل على عناصر أخرى مصاحبة ، کما وصفها فرزستون ولاش ( Frizestone Walash ) " بالإطار المرجعي لکل الدراسات الاجتماعية والإنسانية " ([9]) . ولکنها أصبحت تحاصر الفنانين في کل مکان في العالم عن يمينهم وشمالهم، ومن أمامهم ، ومن خلفهم ، ويتمثل ذلک على سبيل المثال لا الحصر – في انتشار – خدمات التسويق لأعمال الفنانين على شبکة المعلومات العالمية ( الانترنت ) والمحطات التليفزيونية المختصة بالفن التشکيلى ، وهذا يکون له أثره على تردد جمهور الفن على المعارض الخاصة والعامة .

ولکن الشيء الأهم في ذلک کله هو ما تحمله العولمة في طياتها من الترويج لأنمـاط معينة في العـلاقات الأسـرية والاجتماعية والجنـسية السـائدة في الغرب  ( المصدر الأول للعولمة ) من خلال أعمال بعض الفنانين ، ليس بخاف على أحد أننا إذا أغلقنا الأبواب والنوافذ أمام هذا السيل الجارف من العولمة فإننا لن نستطيع أن نمنع وصول ذلک إلى المتلقين عن طريق الأقمار الصناعية أو شبکة الإنترنت ، ومن أجل ذلک ذکر الباحثان أننا أمام واقع لابد من التفـکير في التعـامل معه على نحو سليم.

ومن يزعمون أن العولمة تعني العالمية ، وأنها واقع مفروض ومن يرفضها يعد من المتخلفين هم أصحاب النظرة السطحية للأمور ، ومبشرو العولمة يقولون إن الدنيا قد غدت على نحو مختلف عما سبق وأن التطورات العلمية والتکنولوجية جعلت العالم متشابکاً أشد التشابک حتى غدا کالقرية الواحدة ولم يعد هناک معنى للوحدات الصغيرة والحدود القومية .

علاقة النحت المصري بالعولمة:

من المؤکد أنه توجد علاقة وثيقة بين مفهوم العولمة والسياسات المترتبة على هذا المفهوم وبين فن النحت ، فالعولمة أصبحت تعني بالنسبة لکل من تناولوا هذا المصطلح بالشرح والتحليل انهيار الجسور وزوال الأسوار التي کانت تعزل الدول عن بعضها بعضاً ، فالتغيرات التي حدثت في العالم خلال العقدين الماضيين غيرت في حرکة الفن ويسرت حرکة انتقال هذه المتغيرات في الفن بين مختلف الأمم ، ومن المستطاع الآن تعزيز دور النحاتين بمجتمعنا في عصر العولمة لأن أي انفصال سيلحق ضرراً بالغاً بمهمة النحاتين الحقيقية .

فمن الواجب أن تکون تجاربهم أو الاتجاه الذي يعبرون من خلاله عن الحياة – من نفس نوع تجارب الأشخاص الذين يأملون العثور على جمهور متذوق من بينهم . ولو ألفوا من أنفسهم زمرة خاصة لکان معنى هذا أن تصبح الانفعالات التي يعبرون عنها هي انفعالات هذه الزمرة . وسوف تکون عاقبة ذلک هي اقتصار فهم عملهم على زملائهم الفنانين . وهذا في الواقع هو ما حدث إلى حد کبير خلال القرن التاسع عشر عندما بلغ انعزال الفنانين عن باقي البشر ذروته (1) .

لذلک فمن المهم أن تعمل کل جماعة فنية على أن يکون لها دور في عصر العولمة إلى الاستعداد لهذه الثقافة العالمية القادمة لکي تتفهمها وتستفيد منها .  وفي نفس الوقـت عليها أيضاً أن تنتقي من ثقافتها ما تخلصه من الشوائب وتجمله لکي يضم إلى الثقافة العالمية ويصبح جزءاً منها .

وعلى أنه فيما يتعلق بموضع الأهمية بالذات يتضح أن الاعتراضات التي يثيرها ( المتزمت ) والإنسان العلمي (المثقف) – في عصر العولمة – هي نفس الاعتراضات التي يثيرها المتعصب غير الواعي . " ويتضح من الفحص والاختبار أن الفنون في إبداعها وإمتاعها رموز تلک ( الحياة الفاضلة ) التي يُعني الأخلاقيون بلا أدنى ريب بتحقيقها وتلک الهناءة التي تتجه کل وسائل الإنسان العلمي (المثقف) لتحقيقها (2) .

والعولمة في رأي الباحثان تمثل بالنسبة للنحاتين دعوة مباشرة إلى ممارسة النقد الذاتي ليعيدوا النظر في حساباتهم ، ويعيدوا ترتيب البيت الفني من الداخل ، وهذه الدعوة تأتي بطبيعة الحال دون قصد من أصحاب العولمة ، وقد يرى البعض من النحاتين أن العولمة تمثل استفزازاً للفنانين ، ويرى الباحثان أنه استفزازاً مفيداً إذا أحسن النحاتون الرد عليه بأسلوب عقلاني بعيداً عن التشنج والانفعال .

ومن هنا نقول بأنه إذا کانت العولمة تهدف إلى إزالة الحواجز الزمانية والمکانية والثقافية بين الأمم والشعوب ، وتحاول بطرق مختلفة فرض قيم معينة وحضارة معينة هي قيم الحضارة الغربية ، أو قيم الأقوياء ، فإن ذلک لا ينبغي أن يصيبنا بالفزع وفقدان التوازن لأن ذلک لن يجدي فتيلاً ، ولن يتيح للنحات الفرصة للتفکير السليم ، فنحن – کما يؤکد الباحثان – أمام أمر واقع ، وواجب النحات هو أن يتعامل معه، وهذا الواقع ليس کله شراً ، وليس کله خيراً ، ومن هنا ينبغي التعامل معه على هذا الأساس .

فلا خوف إطلاقاً من العولمة على النحت المصري المعاصر باعتبار أن الطبيعة هي المعلم الأول للنحات ، ومنها يستمد عناصره وکيفيات بنائها التشکيلي … ومن خلال تفاعل النحات مع طبيعة عصر العولمة تنمو ثقافته وينمو إدراکه العقلي وتنمو أفکاره ومفاهيمه . ففي ضوء الظروف الطبيعية والمناخية تنمو وتتدرب حواس النحات على استقبال ما تطرحه طبيعة عصر العولمة من طاقات متباينة الصور ، والأشکال وخامات مستحدثة ، ووسائل وأجهزة وأدوات تکنولوجية عالية ، وتقنيات ومهارات آلية رفيعة المستوى … ومصادر مختلفة للرؤى الجمالية المستحدثة . يدرکها النحات في بداية الأمر بحواس البصر والسمع واللمس ليألف بعضها وينفر من بعضها ، ويأمن لبعضها ويخشى من البعض الآخر .

 وتتدرب حواس النحات على إدراک ما في طبيعة عصر العولمة من مظاهر للتغيير . وتدور تساؤلاته حول ما بينها من اختلافات ، في الأفعال والطبائع والتغيرات ، والتي يراها ـ أي النحات ـ أسباب ونتائج ، ائتلافات وتناقضات ، يبحث عما بينها وبينه وعما بينها وبين بعضها ، تدفعه حاجاته الفنية والحياتية لتفهمها وإصدار الأحکام على ما يلائمه منها . وتشحذ خياله للإبداع الفني .

تلک التغيرات التي يستقبلها النحات بالحواس والتي ينمو فکره الفني خلال التحاور معها ، لاشک أنها تنتهي به لحالات من الإحساس بالرضا أو عدمه ، ومن الميل والنفور ، وکلها حالات وجدانية لها تأثيرها الحاسم على نمو وتأصيل وتدعيم المعاني .

من تلک الزاوية تصبح طاقات الطبيعة ومظاهرها المتغيرة عوامل أساسية للنمو الحسي والعقلي والوجداني لدى النحات ، " وهي عوامل مؤثرة فيما يتسرب إلى داخل عـقله ونفسه من خـيرات وميول ، تمـتزج معاً بطـريقة لا شـعورية  لتصـطبغ بها رؤيـته للجـمال وليعـکسها على ابتـکاراته وفنـونه ( نحوته ) التي ينتجها "(1). وعلى أية حال فقد کانت مصر على الدوام بفنانيها عامة ونحاتيها خاصة خلية حضارية مضطرمة في قلب العالم أجمعه وترتبط بجميع أجزائه وبالعالم الخارجي مما زاد في عملية الإخصاب الحضاري .

الموروث الفني وهوية النحت المصري المعاصر:

يعتبر النحات حلقة الوصل بين المجتمع وأفراده عاکساً لظروف عصره وفلسفته مؤکداً على الأبعاد الثقافية من عادات وتقاليد وأنماط معيشية وأفکار قد تکون حديثة أو قديمة ، وتعد الفنون الجميلة بصفة عامة ، والنحت بصفة خاصة من أکثر المجالات تنوعاً وتسجيلاً للتاريخ ( کما نجدها في الفنون المصرية القديمة ) باحثاً في المستقبل مؤکداً للحاضر في منظومة کلية شکلية ولونية ، ساکنة أو متحرکة ، والنحات إما مسجلاً للأحداث أو معبراً عنها في إطار رؤية فنية إبداعية تشکيلية يقدمها بدوره کرسالة تؤثر في المجتمع وتتأثر به وتسهم فى تشکيل وجدان وعقل الأمة .

وعندما نتحدث عن التراث في النحت فإن المعنى ينصرف إلى الميراث أو الموروث الفني الذي تلقاه الخلف من السلف . وهذا الموروث متعدد الأغراض والاتجاهات والمصادر .

فرغم تعددية واختلاف تيارات واتجاهات هذا الموروث الفني ، کأي نشاط إنساني يسعى إلى حل مشاکل اجتماعية في إطار الزمان والمکان ، إلا أن عمليات الاختزال والإزاحة والتنحية والتنقيح ، القائمة على فهم معين ( للتمصير) عادة ما تکون هي المهيمنة أيديولوجياً ، وتقضي على هذه التعددية والاختلاف . " فالتراث الفني هو الترجمة الملموسة والمادية لمفاهيم وأفکار وعادات وتقاليد … أي ثقافة مجتمع ما في زمن ما ، وتفرض نوعاً معيناً من الرؤية يعرف بالهوية . فالتراث هو الهوية الثقافية للأمة ، والتي من دونها تضمحل وتتفکک " (1) .

والحق أن أية هوية هي تاريخ ، وليست طبيعة ، وأي تاريخ لا يکون کذلک دون تفاعل مع الزمن ، وهذا التفاعل . هو الذي يطرح لنا التغير ، الذي هو الصيرورة وأي تغير من شأنه إيجاد عادات تقوم بالتفاعل والإزاحة لعادات ماضية وثقافات تقوم هي الأخرى بالتفاعل والإزاحة لثقافات ماضية (2) ، فالهوية مفهوم ذهني قبل أن تکون وجوداً محسوماً.

ودعاة التأصيل يدعون للتمسک بالتفاوت في الوضعية التاريخية ما بين المجتمعات الغربية والمجتمع المصري بما حققه من تقدم في مختلف المجالات عامة والنحت خاصة ، کما يحتجون بالاختلاف بين الوضعيتين الغربية والمصرية في الفنون، من حيث البيئة الحضارية والخصوصية الفنية ، مما يدعوهم إلى القول بأن ما نقتبسه عن الغرب من الفلسفات والنظريات والمعالجات الفنية ، هي تقنيات ومفاهيم (غريبة المنبت) ولذا فهي تحتاج بشدة إلى من يقوم (بتمصيرها) وإضفاء الصبغة المحلية الخاصة عليها لکي تستجيب لواقع المجتمع المصري وذلک حفاظاً على الهوية والکيان من الطمس والذوبان في الغرب وحضارته الفنية والتبعية الحضارية والغزو الثقافي الفکري من خلال الأعمال الفنية ، وغير ذلک من التعبيرات الشائعة في خطابات الفنانين المصريين ، من حماة الهوية ودعاة الأصالة.

والمشکلة الأکبر ليست في خيار العزلة والرفض القائم على نظرة أحادية لهوية النحت ، إذ أن ذلک مستحيل موضوعياً ، وخاصة في مثل هذا العصر الذي نعيشه ـ عصر العولمة ـ ولکنها في تشويه علاقة التراث الفني التاريخية بين جانبي ثقافة الجماعة حين الإصرار على تصور أحادي لها تجب حمايته والوصاية عليه . فالمتغيرات في النحت سوف تجد لها منفذاً مهماً کانت أسوار الحماية عالية ، ولکن ذلک سوف يؤدي إلى إنتاج أعمال نحتية ذات نمط فني مشوه نتيجة الفصل التعسفي بين ما هو أصيل ، وبين ما هو دخيل دون أن يکون هناک معيار واضح ومتفق عليه لما هو أصيل وما هو دخيل . ذلک عند حديثنا عن الهوية المصرية في الفن التشکيلي عامة وفي النحت خاصة على افتراض إنها هويتنا الذاتية المتفق عليها عند کافة الفنانين بصفة مصر الأرض الحاضنة لجماعة الفنانين .

إن رجوعنا إلى تراثنا ودراسته بطريقة جديدة ومتعمقة بنظرة تحليلية لا يجعل هويتنا ضد الحداثة أو ما بعدها ولکنها أثرت ومازالت تثري رؤية العالم الحديثة . فکل عمل إبداعي يهدف إلى استشراف المستقبل هو حداثة ، وإذا أردنا أن نصل إلى العالمية فلنؤکد هويتنا أولاً ، بل ونميزها بالفراده . فالهوية في معناها تحمل ما يرتبط بالبيئة والثقافة التي تفاعلت مع الإنسان على هذا المکان ولکن بوعي بالمدى الذي نستطيع أن نأخذه من تراثنا لتأکيد هويتنا بلغة إبداعية حديثة حتى لا نبتعد بها إلى معنى النقل والتقليد ذو التأثير السلبي ولکن بأن نتبع الإيجابيات التي تثبت جذورها لتمتد إلى أصولنا الحضارية (1) .

نعم ، لن تکون هويتنا أو أشکال النحت القادمة بمثل ما کانت بالأمس القريب أو البعيد ، وهل هناک ثبات مطلق في أي شيء ، إذ لابد في النهاية من الانخراط في المتغيرات الفنية السائدة والتعايش معها بما يغير الکثير من المفاهيم والسلوکيات التي کانت ، ولکن ذلک لن يجعلنا نکف عن أن نکون نحاتين مصرين أو خلاف ذلک من عناصر الهوية والنحت . قد لا يکون هذا ( التمصير) مثلاً متوافقاً مع النموذج المفارق الذي يحتل بعض الأذهان والاتجاهات ، وقد لا يکون الفن الممارس متوافقاً مع (تأويلات) نموذجية متعالية معينة لهذا التيار أو ذاک ، ولکن الثوابت الأساسية للفن المصري ، التي هي معروفة لکل فنان وممارسة تلقائياً من کل فنان ، لن تکون محل تلاش .

قد يقال أن هناک مبالغة في الأمر ، وإنه من الممکن أن نلج حضارة العصر (عصر العولمة) دون التخلي عن التراث وثقافته ، أو ما هو متصور ومقدم على أنه ثقافة ذاتية بحتة ، وذلک وفق المبدأ التوفيقي في أن نأخذ أفضل ما عندهم وأفضل ما عندنا ، وکأننا مخيرون في ذلک . وقد يبدو مثل هذا الحل جميلاً وموفق نظرياً ، ولکن هل ذلک ممکن عملياً ومعرفياً ؟ هذا هو السؤال : فمن المعلوم أن أي منتج حضاري هو نتاج ثقافة معينـة ، کما أنه يخلق ثقافته الخاصة عندما ينتقل إلى بيئة ثقافية أخرى . وعلى ذلک ، فهل يمکن إيجاد اتفاق بين التحدي المعاصر للثقافة العالمية الجديدة ، وبين طرقنا في النظر إلى الأشياء ؟ ، بمعنى آخر ، هل من المکن التوفيق بين التقنية وثقافتها وبين الفن وموروثه ؟ .

فالتراث الفني ينبغي له أن يراعي ذلک دون أن نرى فيه بالضرورة عقبة في سبيل التحديث ذلک لأنه لا يخشى أن يصبح التراث الفني عاملاً سلبياً ويغدو مرآة للذات لا حياة فيها إلا عندما يفقد الرمز معناه ، إنه يبدو على الأرجح سجلاً للخبرات التي عاشتها الجماعة واکتسبتها على مر التاريخ وطوال القرون ، فمن الممکن خلال التحديث الفکري أن يسترد التراث الفني وضعه ويندمج في أحداث العصر بل ويساعد على التنميـة والتقدم .

وتحتل قضية الهوية والخصوصية عموماً في النحت موقعاً هاماً ومهماً في قلب العولمة وتجلياتها وآفاقها ، ومن المسلم به أن الخصوصية في النحت في أي مجتمع سوف تتأثر – لا محالة – نتيجة لتفاعلها وتقاطعها مع توجهات العولمـة وآثارها .

ويجب التأکيد على أن عزلة النحات عن الواقع المعاصر تؤدي لعدم تطوره کإنسان وکفنان وکنحات ويجب عليه أن يسعى وراء الحديث والجديد دائماً في مختلف مجالات الفنون التشکيلية ومسايره أحداث التقنيات وباقي صور التطور التکنولوجي والصناعي والعلمي فلن يؤدي ذلک إلى فقدانه هويته .

في هذه الحالة فقط ، أي بالتعامل الواعي للنحات مع العولمة ، يمکن الحفاظ على الذات والخصوصية دون الغرق في المتغيرات ، أو العزلة عنها . ففي مثل هذه الحالة ، تکون الذات مشارکة مع ذوات أخرى في بناء الحرکة العالمية للفنون التشکيلية ، ومهما کانت مشارکتنا ضئيلة ، فإنها أفضل من الانکماش أو الانغلاق على الذات فقط .

وخلاصـة القـول أنه کـما تتــخذ المـعاصرة معنى التـحديث ، تتخذ ( الأصالة ) معنى الارتباط بالجذور التاريخية والجغرافية والثقافية ، وهو ما نسميه ( الهوية ) ويتم تحديث المجتمع من خلال إمکاناته المادية والذهنية ـ في ضوء التراث الذي هو حکمة التاريخ وحصيلة خبراته . فالأصالة من الناحية النظرية هي إيجاد حلول مبتکرة بناءاً على خبرات سابقة لمواجهة مواقف تفرضها متغيرات جديدة . ينطبق هذا التعريف من الناحية السيکولوجية على النحت ـ من حيث انه استجابة لمثيرات معينة . وتختلف النتيجة من نحات لآخر ، کل حسب هويته وثقافته وفکره ورصيده الوجدانى ، أما في العلم فتتوحد النتائج لدى الجميع .

واقع النحت المصري المعاصر :

إذا نظرنا إلى النحت المصري المعاصر في السنوات الختامية للقرن العشرين  وجدناه بحراً عاصفاً زاخراً بصنوف الابتکار والإبداع والممارسات الإبداعية ،" التي لا تندرج تحت المسميات القديمة التي سادت النصف الأول من القرن العشرين ، کالانطباعية والتعبيرية والتکعيبية والمستقبلية والتجريدية والسريالية وغيرها ، بين هذا الفيض من المبادرات المثيرة المتسمة بالجرأة والمغامرة . بعضها بلا هدف أو معنى ولا يحمل سوى أمارات ( سمات ) المحاولة وتجربة الخامات الجديدة ومعطيات للتکنولوجيا  و بعضها الآخر يطرح معايير فنية مبتکرة ، تلبي احتياجات التغير الاجتماعي ، شان ما يجري في کثير من الثقافات المتقدمة (1) .

فالبحث عن هوية للنحت المصري المعاصر ، يعتبر أمراً هاماً ، وعلى الأخص في هذه الظروف التي يمر بها الوطن العربي من الفرقة ، والتمزق ، والتشتت . ومن منطلق أن النحت المصري المعاصر له من الإرث الحضاري عبر العصور العديد من الصور والأشکال الفنية ، والتي لا تضارعه فنون إرثية بهذا الکم والزخم الحضاري في مناطق أخرى من العالم . فإن التکدس أو التکديس الحضاري في الفن هو الذي يجعلنا نصر على البحث والتنقيب عن غياب (هوية) للنحت المصري المعاصر … وعلى الأخص بعد أن کنا أصحاب حضارة علمت العالم کل أنواع الفن ، والثقافة .

ونحن في يومنا هذا – في أشد الحاجة إلى نظرة علمية للموروث الحضاري  وعلى الأخص في هذه المرحلة التي يواجهها المجتمع المصري – هذه المرحلة التي أدت إلى عدم تقدم النحت المصري المعاصر بسبب مشاکله الحياتية التي يعيش الفن المصري في ظلها الآن ، والتي تسهم هذه المشاکل الحياتية في تشکيل الصورة الباهتة التي يبدو عليها واقع الحرکة الفنية التشکيلية المصرية ، سواء ما يکون منها بالسلب أو الإيجاب .

بهذا المعنى لا يبدع النحات ما يبدعه من منحوتات ، لکي يتماشى مع خصوصيته الثقافية . الأحرى القول أنه يشتغل على خصوصيته بإثرائها وتحويلها عبر فرادته الأسلوبية أو من خلال اقتحامه مناطق مستبعدة من نطاق الفن والنحـت . والإبداع بما هو تصنيع وتحويل يطول المنقول والمستورد کما يطول الذاکرة والهوية والتراث ، أي الأرض الثقافية التي يجري فيها استنبات الفنون التشکيلية ومنحوتاتها وإذا کان ثمة خصوصية للنحت المصري فهو کخصوصية النحت الفرنسي أو الإيطالي أو الأمريکي … إلخ . بمعنى أنه يشکل غنى وإضافة ثمينة على فن النحت عامة عبر ابتکار جديد من التقنيات الأسلوبية والاتجاهات الفنية.

وقد أضحى جلياً أن للفن وظيفة بيولوجية وسوسيولوجية هامة في حياة الإنســان (1) . فالرغبة الإنسانية قد تصطدم في الغالب بعقبات في طريق تحقيقها  هذه العقبات هي الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالنحات ، الذي هو منبع ومصب کل الرغبات . ولذلک فإنه لا يمکننا فهم الصورة العامة للنحت في مصر بطريقة مستقلة عن إدراک طبيعة الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتمثل في عصر العولمة ، واحتياجاته المتنوعة والتي تتطلب منا عملاً جماعياً منسقاً. فلا يعقل أن ننتظر الصورة الجديدة المتقدمة للطابع العصري في العالم الغربي ، وأن تمنح الحياة عبقرية شخصية مفردة . هذا إذا أردنا حتماً مواکبة التقدم الإنساني ، وتحقيق أسلوب الحياة العصرية التي نتمناها کنحاتين من وراء اکتشاف صورة عصر العولمة وتجسيدها .

وباعتبار النحت نشاط قائم بذاته ، "متأثر شأنه شأن جميع نشاطاتنا بالأحوال المادية للوجود ، أما من حيث اعتباره کطريقة للمعرفة ، فله واقعه الخاص ونهايته الخاصة ، فلديه بالضرورة علاقات مع السياسة والديانة ، ومع سائر الطرائق الأخرى المتعلقة به والتي تتفاعل مع قدر البشر . ولکنه مميز ويساهم بالتالي بحکم حقه الشرعي في تلک الطريقة المنهجية الهادفة المتعلقة بالتوافق الوظيفي والتي نسميها حضارة أو ثقافة "(2) .

وقد استبعد النحات المصري المعاصر من حلقة الصراع والتنافس العالمي ، وعلى النقيض من هذا التفکير أدى عدم تفهمه للمدارس الغربية الحديثة وعدم إدراکه وتمکنه من دراستها دراسة عميقة إلى بعده عن أعماق النفس البشرية لاستخراج ما بداخلها من قدرات تعبيرية ورغبات لاحتياجاته المعيشية . ويبدو واضحاً أن النحات لمصري المعاصر لهذه الأسباب ظل صريع فهم قاصر عن مفهوم الفن ووظيفته الاجتماعية ، والمقارنة بفنونه القديمة ، نرى الهوة السحيقة بينه وبين الماضي .

وهذا باستثناء القلة القليلة من النحاتين الواعين بالمفهوم الحضاري لحرکـة التاريخ ، وحتمية التطور والتقدم نحو إيجاد واقع جديد للأمة العربية .

فکان المثال ( محمود مختار ) قد فجر ينابيع النحت المصري المعاصر بمحاولاته العديدة في إعادة الصياغة الفنية لمفهوم النحت المصري المعاصر ، باعتماده على القواعد الراسخة والثابتة للنحت المصري القديم ، التي علمته مصر الفرعونية للعالم ، فأقامت أکبر النصب والأعمال النحتية الصرحية، التي رسخت أول قواعد فن النحت في العالم . بهذا الاستيعاب للحضارات السابقة واجه (مختار) موقف من أخطر المواقف تاريخياً ، وهو إيجاد الوصل التاريخي بين حضارتين من أکبر الحضارات ، حضارة مصر القديمة ، وحضارة القرن العشرين بکل ثقلها ومحاورها المتعددة وغرابتها عن المفاهيم والمدارک العاديـة للفنان صاحب الموروثـات التقليديـة … وکان على المثال ( محمود مختار ) أن يحدد موقفه الفني في هذا التلاحم الحضاري بدون فقدان للهوية المصرية ذات السمة الحضارية القديمة ، والمحملة بهذا الإرث العظيم ، وعلى الأخص في مجال النحت الذي فاق قدرة الإنسان العادي والممثلة في هذه الأعمال الضخمة التي ترکها الأجداد للأحفاد .

وتقترب الهوية الفنية المصرية لفن النحت من الاکتمال في أعمال النحـــاتين (محمود مختار – جمال السجيني)، ويظل هناک تساؤل عن ما قدمه (مختار والسجيني ) وجيلهم ، وما لم يتمکنوا من تقديمه تارکين هذا الحمل والمسئولية إلى أجيال أخرى جديدة .

واستمرت الدعوة للارتباط بالتراث من خلال بعض النحاتين ، کأحد الطموحات الکبرى التي تأثر من خلالها کثير من النحاتين المصرين ، وعلى هذا النحو تنحصر قيمته في الإمساک بنبع أساسي من الينابيع التي تمنح النحت المصري المعاصر طابعه المميز ، ولا نتمکن من تطويع هذه الحضارات وهذا الإرث لإمکانيات التعبير عن متطلبات عصر العولمة .

فطالما النحات المصري المعاصر بعيداً عن الأحداث والمتغيرات التي تحيط بواقع مجتمعه ، فلا يمکنه أن ينفصل اليوم کلياً عما يحدث خارج مصر . وبالطبع لا يمکن للنحات أن يعيش منفصلاً عن الأحداث العالمية خارج وطنه أو داخله خصوصاً بعدما انفصل الفن عن إدارة السلطة ، ولم يعد النحات خادماً لطبقة محددة  کما کان يحدث في العصور السابقة . ففي عصر العولمة واجب على الفن والنحات أن يأخذا طريق التحرر الفکري ، ولکنه تعثر في هذه المرحلة بأشياء کثيرة ، فقد أخطأ بعض النحاتين أخطاء جسيمة لفهمهم السطحي لقيمة التراث فلجأوا إلى تقليد التراث الفني تارة ، ولجأوا إلى الفن الحديث تارة أخرى بدون فهم وإدراک .

فکل هذه العملية ، يتبارى النحات ليس فقط مع مشکلاته التقنية الخاصة ، التي هي عبارة عن التوفيق بين الأحاسيس الجمالية مع الحافز الأيديولوجي الخارجي ، ولکن مع المشکلة الحادة لتأمين الرزق لنفسه في عالم (عصر العولمة) حيث حول کل عمل إلى قاعدة نقدية ، بمعنى آخر ، أصبح العمل الفني سلعة بحيث يضطر النحات بيعها في سوق الفن الحرة وإلا سيقضي عليه .

والحق يقال أن موقف النحات هنا ليس هو بالموقف الفردي في قبول أو رفض المسلمات الإرثية بدون وعي کامل . ومن الواقع أن المطروح على الساحة الثقافية في بداية القرن العشرين على أرض مصر وترابها . ليس هو بالموقف الفردي ومن واقع أن المطروح  وحتمية التطور ، في ظروف ما، تحدد شکل ومضمون الهوية الثقافية والفنية – من خلال الصراع الفکري لمتطلبات الإنسان – وأن الفترة الزمنية هي التي تحدد شکل الصياغة الفنية المطلوبة من خلال التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي ينتج منها شکل الصياغة للهوية الفنية (1) .

وبالرغم من النداءات والمغالطات في مفهوم التراث والعودة إلى الرؤية الوسيطة في مفهوم النحت خوفاً من الانجراف في التيارات المعاصرة للفن ، يضرب نحاتوا مصر المعاصرون المثل الحر والحى في التأکيد على مفهوم الخلاصات التراثية – وليس الأشکال التراثية المنقولة والمرئية بالنظرة العادية الساذجة – ولا يعتقد أن هناک حضارة اعتمدت على إلغاء تراث لحساب تراث آخر  نتيجة للانتماء الإقليمي فحسب … فإن ما يقع اليوم من أحداث في الحياة اليومية في أي مکان في العالم ، نسمع صداه في نفس الزمن الذي حدث به ، هذا يعني أن حواس النحات ومشاعره أصبحت مرتبطة بما يخص الآخرين مهما بلغت المسافة والزمان والمکان .

وإذا ظن البعض أننا في منأى عن أحداث العالم وتشابکاته المعقدة ، ويمکننا أن نقيم فناً أو نحتاً قائماً بذاته … فهم بلا أدنى شک مخطئين ، بعد أن تواصل وتقارب الإنسان بالرغم من الحدود الدولية فتراث الأمم والشعوب لم تعد ملکيته خاصة بشعب معين ، ولکن اتسعت المعرفة ، وقربت المسافات الفکرية والعقائدية ، وأصبحت الثروات الحضارية في متناول الجميع يحافظون عليها وينهلون من علومها .

فهؤلاء الذين ينادون بنحت خاص عليهم أن يدرکوا أن التطور ووحدة الشعوب والاشتراک في المعرفة ، وسرعة إرسال المعلومة والتبادل السلعي ، غيرت من الشکل الفني الذي ينتجه النحات . ومن حق الشعوب الأخرى أن تتأثر بهذا التراث وملکيته ، وتتفاعل معه ولا يدعو ذلک إلى أن تتناسى الشعوب تراثها وتترکه للعابثين .

فالهوية الفنية لشعب ما ، هي الطاقة الکامنة في وجدانه ، والتراث ما هو إلا أحد المثيرات الفعالة في تحريکه وتذکيره بماضيه لکي لا يضل الطريق … أو لا ينحرف عن المسيرة الحقيقية لرغبات النحات ونحن على ثقة بأن جيل النحاتين المصرين المعاصرين قادرين على تحمل المسئولية بکل حملها الفني ، نحو التأکيد على أن فن النحت المصرى المعاصر في حاجة إلى الجهد والبحث والتنقيب في ظل متغيرات عصر  العولمة ، وحرکة الحداثة وما بعدها . ولهذا يتطلع النحات المصري المعاصر إلى آفاق أرحب … ليحقق للحرکة الفنية التشکيلية المصرية مصيرها الفني … ونحو واقع جديد ليرسم خطى هذا المجتمع إلى الأمام .



1-أسامة المجدوب : "العولمة الإقليمية" ، الدار المصرية اللبنانية ، القاهرة ، 2000 ، ص 41 .

3-محمد الشوربجي : "النحت المصري المعاصر بين الهوية والعولمة" ، رسالة دکتوراه ، غير منشورة ، کلية التربية النوعية ، جامعة المنصورة ، 2004 ، ص20.

(3)Oxford Advanced learner’s Dictionary. England, 1980, P. 503.

(4) Webster’s Nuts new collegiate Dictionary, 1991, P.521.

(5) Antthony Giddens: The Consequences of Modernity , StanfordUniversity Press , 1995 - P. 25.

(1) Ronald Robertson: Globalization , Sage ,  London , 1992 , P.15

(2) مصطفى عبد الغني : " الجات والتبعية الثقافية "، الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة ، 1999 ، ص 72 .

(3) مصطفى عبد الغنى : " المثقف العربي والعولمة " ، الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة ، 2000 ، ص 49 .

(4) Mike Featherst - Scott lash and Ronald Robertson: Global Modernity's - 1 St. - London - 1995 - P1.

(1) روبين جورج کولنجوود :" مبادئ الفن " ،  ترجمة : أحمد حمدي محمود ، الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة 2001 ، ص212 .

(2) أروين أدمان : " الفنون والإنسان " ، ترجمة : مصطفى حبيب ، الهيئة المصرية العامة للکتاب K القاهرة ،2001 ،ص 60 .

(1) إيهاب بسمارک الصيفي : " الأسس الجمالية والإنشائية للتصميم"  ، الکاتب المصري للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1992   ، ص16 .

 (1) محمد الشوربجي: النحت المصري المعاصر بين الهوية والعولمة " ، مرجع سابق ، ص 30.

(2) أحمد فؤاد سليم : " الخصوصية بين الهوية والعولمة " ، الحرکة التشکيلية المصرية الحاضر والمستقبل ، مؤتمر  نقابة الفنانين التشکيليين ، القاهرة ، 1999 ، ص24 .

(1) زينب علي إبراهيم السيد : " التربية الفنية بين الهوية والعولمة " ، الحرکة التشکيلية المصرية الحاضر والمستقبل ، مؤتمر نقابة الفنانين التشکيليين ، القاهرة ، 1999 ، ص45 .

(1) مختار العطار : " آفاق الفن التشکيلي على مشارف القرن الحادي والعشرين " ، الطبعة الاولى ، دار الشروق القاهرة ، 2000،  ص 164 .

(1) هربرت ريد :" الفن اليوم " ، ترجمة : محمد فتحي ، جرجس عبده ، دار المعارف ، القاهرة ، 1981 ، ص31 .

(2) هربرت ريد : " الفن والمجتمع " ، ترجمة : فارس متري ضاهر ، دار القلم ، لبنان ، 1975 ، ص12 .

(1) صالح رضا : " ملامح وقضايا في الفن التشکيلي المعاصر " ، الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة، 1990، ص45

المراجع
(1) أروين أدمان: الفنون والإنسان، ترجمة: مصطفى حبيب، الهيئة المصرية العامة للکتاب، القاهرة ، 2001.
(2) أسامة المجدوب : " العولمة الإقليمية " ،الدار المصرية اللبنانية ، القاهرة ، 2000
(3) ألکسندر اليوت : "آفاق الفن "، ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا ، هلا للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2002م .
(4) أحمد فؤاد سليم : "الخصوصية بين الهوية والعولمة " ، الحرکة التشکيلية المصرية  الحاضر والمستقبل ، مؤتمر نقابة الفنانين التشکيليين ، القاهرة ، 1999.
(5) إيهاب بسمارک الصيفي:الأسس الجمالية والإنشائية للتصميم، الکاتب المصري للطباعة والنشر، القاهرة، 1992.
(6) حامد عمار : "مواجهة العولمة في التعليم والثقافة" ، مکتبة الدار العربية للکتاب  القاهرة ، 2000.
(7) روبين جورج کولنجوود : "مبادئ الفن " ،  ترجمة : أحمد حمدي محمود ، الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة،2001 .
(8) زينب علي إبراهيم السيد : "التربية الفنية بين الهوية والعولمة "، الحرکة التشکيلية  المصرية الحاضر والمستقبل ، مؤتمر نقابة الفنانين  التشکيليين ، القاهرة ، 1999.
(9) صالح رضا : "ملامح وقضايا في الفن التشکيلي المعاصر " ،الهيئة المصرية العامة للکتاب ، القاهرة،1990.
(10) عز الدين نجيب : "أنشـودة الحجر"، الهـيئة العامة لقـصور الثقافة ، القاهرة ، 1999.
(11) مختار العطار : "آفاق الفن التشکيلي على مشارف القرن الحادي والعشرين"   الطبعة الأولى ، دار الشروق ،  القاهرة ، 2000.
(12) مصطفى عبد الغني: الجات والتبعية الثقافية، الهيئة المصرية العامة للکتاب، القاهرة، 1999 .
(13) ...........................: "المثقف العربي والعولمة "، الهيئة المصرية العامة للکتاب، القاهرة ، 2000
(14) محمد الشوربجي : "النحت المصري المعاصر بين الهوية والعولمة " ، رسالة  دکتوراه ، غير منشورة ، کلية التربية النوعية ، جامعة المنصورة ، 2004.
(15) هربرت ريد : "الفن اليوم "  ، ترجمة : محمد فتحي ، جرجس عبده ، دار المعارف القاهرة ، 1981.
(16) ............... : " الفن والمجتمع " ، ترجمة : فارس متري ضاهر ، دار القلم  لبنان  1975 .
(17) Antthony Giddens: The Consequences of Modernity  StanfordUniversity Press , 1995
(18) Mike Featherst - Scott lash and Ronald Robertson: Global Modernity's , 1 St. , London , 1995
(19) Oxford Advanced learner’s Dictionary. England, 1980
(20) Ronald Robertson: Globalization , Sage ,  London , 1992
(21) Webster’s Nuts new collegiate Dictionary, 1991