القيم التربوية والجمالية في مفهوم التمثيل عند عبد القاهر الجرجاني

نوع المستند : مقالات علمیة محکمة

المؤلفون

جامعة البلقاء التطبيقية کلية الأميرة عالية الجامعية

المستخلص

تقف هذه الدراسة على مفهوم الإمام عبد القاهر الجرجاني للتمثيل ، وتُظهر کيف مازه عن التشبيه بطريقة تباين ما تناهى إليه البلاغيون ، وهو الأمر الذي حدا بالدراسة إلى الوقوف على نظرات الإمام عبد القاهر في الفرق بين المفهومين وقوفاً تحليلياً ، يأخذ بطرفٍ من النظر المقارن ؛ فعرضت الدراسة إلى مفهوم التمثيل الذي استقرّ لدى البلاغيين أمثال ( ابن الأثير والسکاکي والخطيب القزويني ) . واحتکمت الدراسة إلى المعنى المعجمي للفظة (التمثيل) محاولةً رصد التفسير الأقرب لروح اللغة ؛ أهو تفسير الإمام الجرجاني أم ما استقرّ لدى البلاغيين؟
واهتمت الدراسة بإبراز القيمة الجمالية للتمثيل ؛ تتجلّى خلالها روعة الصورة إذا ما حللناها وفق مفهوم الإمام الجرجاني للتمثيل ، وکيف أنّ هذه الروعة تخبو بغير هذا المفهوم .
وأظهرت الدراسة ما کان من توارد في الأفکار بين الإمام الجرجاني من جهة وبين النقاد المحدثين والتربويين من جهة أخرى ، فعرضت إلى نظرة الإمام إلى التشبيه المرکب من حيث تفکيک المرکبات إلى أجزاء ، ثم إعادة بنائها بناءً جديداً ، يخلق مذاقاً يختلف تبعاً للمتلقي ، مما نجده عند النقاد المحدثين وهم يتحدثون عن أثر المتلقي في إبداع النص ، فهم يرون في المتلقي مبدعاً جديداً للنص . وعرضت إلى نظرة الإمام إلى التشبيه الحسي والعقلي ، ورصدت بعض ملامح التوارد بينها وبين حديث التربويين عن المجرد والمحسوس ، وکذلک حديثهم عن الفروق الفردية وتوارده مع حديث الإمام عن تفاوت المتلقين في تأوّل وجه الشبه العقلي .

مفهوم التمثيل بين الجرجاني والبلاغيين المتأخرين :

أفرد الإمام عبد القاهر الجرجاني التمثيل من التشبيه ، في مرحلة مبکرة من تطور البلاغة ، فجعله قسما منه ومازه عن التشبيه الصريح (المباشر) ، وأبرز خصوصيته في الدلالة ، واهتم ببيان هذه الخصوصية ، وأنها تتناول إعمال العقل والتفتيش في الطرفين ، والنفاذ إلى الشبه الخفي، الذي لا تراه في المشبه على حدّ رؤيتک له في المشبه به([1]).

وقبل أن نمضي في بسط رأي الإمام عبد القاهر الجرجاني في مفهوم التمثيل وما يلقيه هذا المفهوم من ظلال ذات دلالات نفسية وتربوية ونقدية ، نرى من ضروريات البحث أن نعرض عرضا سريعا موجزا لآراء بعض العلماء الذين تحدّثوا عن التشبيه والتمثيل ، وعن معيار الفرق بينهما . وبدايةً نشير إلى أنّ بعض العلماء لم يفرقوا بين المفهومين ، ومن أولئک ابن الأثير صاحب المثل السائر ؛ فقد قرر أنْ لا فرق بين التشبيه والتمثيل([2]) . ولکن ما عليه جمهور العلماء أنّ التشبيه شيء والتمثيل شيء آخر ، فهذا السکاکي يذهب إلى " أنّ التشبيه متى کان وجهه وصفا غير حقيقي، وکان منتزعاً من عدة أمور خُصَّ باسم التمثيل " ([3]). فالتمثيل عنده ما توفر له أمران ؛ الأول : أن يکون وجه الشبه أمراً عقلياً تصورياً لا وصفاً حقيقياً . والثاني : أنْ يکون وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد .

 وقد وسّع الخطيب القزويني ، الذي لخص مفتاح السکاکي ، دائرةَ التمثيل ؛ فلم يقصر التمثيل على وجه الشبه العقلي التصوري ، بل رأى أنّ ثمة صوراً حسيّة بديعة لوجه الشبه حريٌّ أن يزَّيَّن بها التمثيل . ولکنه التزم بضرورة أنْ يکون وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد.([4]) وهذا الذي ذهب إليه الخطيب القزويني هو ما استقر عليه البلاغيون فيما بعد، وتابعهم فيه کثير من المحدثين.[5]

أما الإمام الجرجاني ـ وقد سبق هؤلاء العلماء في الحديث عن التمثيل في فترة لم يکن علم البيان قد استقرّ فيها على ما هو عليه ، وکان لا يزال في طور نموّه ـ فحين أراد أن يميز التمثيل من التشبيه ، نظر إلى وجه الشبه نظرة تختلف عن المتأخرين ؛ فلم يحفل بکون الوجه مفردا أو مرکبا ، أو بعبارة أدقّ لم يقصر نظره على هذه الناحية ـ على الرغم مما لها من قيمة ـ بل نظر إلى کنه وجه الشبه نظرةً داخلية، تنسجم ومنهجه في النظر البلاغي([6]) ،إذْ تنبه إلى ما يجلبه من تصوير حسّي ، هو في نظره لبّ التمثيل ، وهو ما يمنحه القيمة الجمالية .

 ويرى أن وجه الشبه على ضربين ؛ الأول : يکون وجه الشبه في أمر بيّن لا يُحتاج فيه إلى تأوّل . والثاني : يکون وجه الشبه أمراً محصلاً بضرب من التأوّل . ومثّل للأول بتشبيه الشيء إذا استدار بالکرة ، أو بالحلقة من جهة الشکل . وبتشبيه الخدود بالورد من جهة اللون. وبتشبيه الثريا بعنقود الکرم المنور من جهة الشکل واللون ...إلخ ([7]).

ونلحظ في هذه الأمثلة أنّ طرفيّ التشبيه حسيان ، مما يلزم أن يکون وجه الشبه حسياً ، وهو بذلک أمر بيّن لا يُحتاج فيه إلى تأوّل ، وأيّ تأوّل يجري في مشابهة الورد للخد في الحمرة وأنت تراها في الطرفين ظاهرة للعيان ! إلاّ أنها في المشبه به أقوى وأمثل منها في المشبه .

 ويندرج تحت الأمر البيّن أن نشبه الأمر المعقول ( ما يدرک بالعقل ) بمعقول مثله ، کأن تشبه الرجل بالأسد في الشجاعة ، فالشجاعة ليست من الأمور المحسوسة إنما هي أمر عقلي ، وهي موجودة في المشبه والمشبه به ، يدرکها العقل دونما حاجة إلى تأوّل . فکلّ ما جاء على هذه الشاکلة هو من باب التشبيه ولا يدخل في باب التمثيل ؛ لأنه لا تأوّل فيه ، بمعنى أن مثل هذه الأمثلة لا تستحث مخيلة المتلقي ، فتجعله يتمثل وجه الشبه شاخصا أمام ناظريه ، بل تکتفي منه بتقريب أمر إلى أمر لوجود المشابهة بينهما ؛ لذلک لم يستحق اسم (تمثيل).

وأمّا الضرب الثاني ، وهو الوجه الذي يتحصّل بضرب من التأوّل ، فيمثّل له بتشبيه الحجة بالشمس في الظهور ، وبتشبيه الألفاظ بالماء في السلاسة ، وبالنسيم في الرقة ، وبالعسل في الحلاوة .([8])

ولا شکّ ـ هنا ـ أنّ وجه الشبه ( الظهور والسلاسة والرقة والحلاوة ) أمرٌ حسيّ في هذا الضرب من التشبيه ، ولکن ترى هل الحلاوة في العسل ـ مثلاً ـ کما هي في الکلام ؟ إنّ الحلاوة في العسل وصف حقيقيّ للعسل ، أما في الکلام فلا يوصف بها إلا بعد ضرب من التأوّل ، فمن المعلوم أن الحلاوة مما تميل إليه النفس ، وتأنس به ، فإذا وُصِف الکلامُ بها فليس المقصود الحلاوةَ ذاتَها،وإنما يريدون ما تقتضيه من ميل النفس وما ينتج عنها من أثر . ومثل هذا لا نجده في تشبيه الخد بالورد في الحمرة ؛ فالحمرة موجودة وجودا حقيقيا في الخد والورد ، أما الحلاوة فوجودها في المشبه به وجود حقيقيّ يدرک بالحاسة ، أما في المشبه فوجودها يحتاج إلى تأول عن طريق إعمال العقل .

وتبرز في هذه المسألة عبقرية الجرجاني ، وکيف أنه تنبه إلى أمر أغفله المتأخرون ، واکتفوا بالنظر إلى شکل وجه الشبه الظاهر من حيث کونُه مفردا أو مرکبا ، دون التنبه إلى وجه الشبه الحقيقي أو إلى الأثر الذي ينتج عن وجه الشبه ؛ فالشيخ عبد القاهر الجرجاني وضّح أن ما يقتضيه تشبيه المعقول بالمحسوس من ميل النفس ليس هو وجه الشبه ، وإنما هو لازم وجه الشبه ، وهو أثر ناتج عنه ، لأن وجه الشبه ـ عنده ـ صورة حسية تتمثل في الأمر المعقول ( المشبه ) نتيجة تشبيهه بأمر حسيّ ( المشبه به ).([9])

ومن هنا سُمي هذا الضرب من التشبيه تمثيلا ؛ لأنه يمثل الأمور المعقولة ويشخصها ويجعلها ماثلة في أمر محسوس ، أو بعبارة أخرى يقوم التمثيل عند الإمام عبد القاهر الجرجاني على تمثيل فکرة عقلية أو نفسية أو انفعالية أو ما شابه ذلک مما يدرک بالعقل وتجسيدها في صور حسية ، فتشبيه الکلام بالعسل في الحلاوة يُعد تمثيلا ؛ لأن جمال الکلام ، وهو مدرک عقلي ، أصبح عسلا يذوق اللسان حلاوته . وتشبيه الحجة بالشمس في الظهور يُعدُّ تمثيلا ؛ إذ أصبح بيان الحجة شمسا ترى العين جلاءها .

وبالاحتکام إلى المعنى اللغوي لکلمة ( تمثيل ) نجد أنّ مفهوم الشيخ عبد القاهر للتمثيل أقرب إلى روح اللغة ، إذْ يورد صاحب اللسان معاني متعددة لمادة ( مثل ) تلتقي في بعضها مع معاني مادة ( شبه ) وتتباين في بعضها الآخر ، فمن التباين قوله : " والتمثال : الصورة ، والجمع : التماثيل ، ومثّل له الشيء : صوّره حتى کأنّه ينظر إليه ، ... ومثّلت له کذا تمثيلا إذا صوّرت له مثاله بکتابة وغيرها ، وفي الحديث " أشدُّ الناس عذابا ممثل من الممثلين " أيّ : مصوّر " ([10]).

وواضح أن الإمام الجرجاني انطلق من هذا المعنى في التمييز بين التشبيه والتمثيل ، فهو يرى أنّ التمثيل إنما سُمي تمثيلا لأنه يمثّل الأمور المعقولة ، ويجعلها شاخصةً ماثلة في أمر محسوس ، تنظر إليه أو تذوقه أو تسمعه أو تتلمسه بيديک، وهو مأخوذ من المثال المنصوب ؛ أيّ من التمثال القائم بين عينيک .

هل أهمل الإمام الجرجاني الصورة المنتزعة من متعدد ؟

 تبيّن مما سبق أنّ الإمام الجرجاني جعل ضابط التمييز بين التشبيه والتمثيل هو انتقال المعنى من حيّز المعقول إلى حيّز المحسوس ، ولکن هذا لا يعني أنّه لم يلتفت إلى الترکيب ، بل تحدّث عنه حديث المبدع صاحب الذوق الرائع ، فأبرز قيمته الجمالية وأثر هذه القيمة في النفس ، واختلف الجرجاني عن سائر البلاغيين في هذا الأمر ؛ إذ إنهم جعلوا الترکيب المعيار الوحيد في التفريق بين التشبيه المباشر والتمثيل ؛ فإن أُخذ وجه الشبه من عدة أشياء فهو تمثيل ، أما الإمام عبد القاهر الجرجاني ، فلم يجعل الترکيب معيارا في التفريق بين التشبيه والتمثيل ، على الرغم من أنّه خصّه باهتمام في الحديث عن التمثيل ، فقد ذکر في معرض حديثه عن تقسيمات التمثيل : أنّ وجه الشبه يؤخذ من الشيء الواحد مثل العسل والشمس والماء والعلم في الأمثلة السابقة ، وقد يؤخذ من جملة أشياء يُضم بعضُها إلى بعض ، کما في قوله تعالى : " مثَل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها کمثل الحمار يحمل أسفاراً " ([11]).فالشبه مأخوذ من تلک الجملة المکوّنة من الحمار والحمل والأسفار ، وفي هذا المقام يذکر الشيخ أنّ العناصر اللغوية تتداخل وتسبک وتصهر حتّى تکوّن شيئاً واحدا وجديدا ، يختلف في دلالاته التخييلية عما کان عليه قبل الترکيب ، وذکر أن هذا الضرب هو الجدير باسم التمثيل ، وربما يکون هذا هو الذي أغرى المتأخرين باعتبار الترکيب معيارا في التفريق بين التشبيه والتمثيل .

 والذي نلحظه أن نظرة الجرجاني للتشبيه المنتزع من أمور متعددة تکتسب دقة عالية خاصة في الأمثال القرآنية, فقد قدّم الجرجاني نماذج عدة من آيات المثل في القرآن الکريم, وضّح عن طريقها عمق فلسفة التشبيه في مزج الشبه المستخرج بين شيئين, أو أشياء تمتزج وتتفاعل مع بعضها, لتشکل في النهاية شيئاً واحداً, ذا صورة متعددة, وهذا بدوره يشير إلى أروع الخصائص الفنية للتشبيه المرکب في المثل القرآني عند انتزاع وجه الشبه من متعدد.[12]

القيمة الجمالية للتمثيل :

عني الإمام عبد القاهر الجرجاني بالقيمة البلاغية أو بالأثر الذي يحدثه التمثيل في المعاني المعقولة، عندما يجسّدها في حيّز محسوس، وأظهر قيمة ذلک في الأداء الأدبي ، ورصد أسباب هذا التأثير، ولماذا کان التمثيل مما يشرف به الکلام وينبل.

فهو يقرر أن عدّ وجه الشبه الصفةَ المحسوسةَ مما يزيد الصورة روعةً وجمالاً، لأنّه ينقل المعنى من خفيّ إلى جليّ ، ويأتيک بصريح بعد مکنّى ، ويجسد الخواطر النفسية في صور حسيّة ، تبلغ في التأثير مبلغها . وتأسيساً على ذلک لا ينبغي أن نقصر وجه الشبه على ما تقتضيه الصفة الحسيّة أو على الأثر النفسي الناتج عن هذه الصفة ؛ لأن هذا الأثر ليس هو وجه الشبه ، إنما هو لازم وجه الشبه ، کما يسمّيه الإمام عبد القاهر ، وبهذا نکون قد هدرنا جمال التصوير الحسّي ، الذي هو کنه التمثيل عند الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ومثال ذلک قول ابن المعتز ([13]):

اصبر على حسد الحســـود        فإنّ صبـــــــــــرک قاتله

فالنـار تأکـل نفســــــــــــــــها         إن لم تجد ما تأکله

 فلا ينبغي أن نقول : إنّ وجه الشبه هو الفناء في الطرفين ؛ فالحسود الذي لم يجد من يناکفه ، سيعود حسده وبالاً عليه ويؤدي إلى فنائه ، وکذلک النار التي لم تمد بالحطب، فستأکل نفسها ومن ثمّ تنتهي ؛ فلذلک لا يجوز أن نقصر وجه الشبه على هذه الصفة ( الفناء بسبب انقطاع المدد ) لأن في ذلک إفساداً للصورة وقتلاً لجمالها، وبطلاناً لتسمية ذلک تمثيلاً ؛ إذ ضاع بهذا التأويل التجسيد الحسّي للصورة ، وبقي وجه الشبه العقلي على حاله ، فلم يظهر مشخصاً وماثلاً للعيان کما يفترض في هذا النوع من التشبيه ، لذلک يرى الشيخ الجرجاني في توجيه قول ابن المعتز السابق ، أن وجه الشبه هو ما تراه عينک في هذه النار التي لم تمدّ بالحطب وهي تأکل نفسها، فتصبح النار بذلک صورة مشخّصة ماثلة أمام ناظريک، أما الفناء بسبب انقطاع المدد فهو لازم وجه الشبه وليس وجهَ الشبه ذاتَه . ولازم وجه الشبه هذا هو ما عدّه المتأخرون وجه الشبه ، ولم يلتفتوا إلى التأول الذي عناه الإمام عبد القاهر، وبذلک أسقطوا الحديث عن التصوير الحسّي الذي هو لبُّ التمثيل عند الشيخ عبد القاهر الجرجاني.

 وتتبدى روعة التجسيد الذي يحدثه تشبيه التمثيل في قول الشاعر صالح بن عبد القدوس:

 وإن مَن أدّبته في الصبا         کالعود يُسقى الماءُ في غرسه

 حتى تراه مورقاً ناضراً         بعد الذي أبصرتَ مِن يُبْسِه

فالشاعر ,بحسب نظرة الجرجاني, سلک طريق تشبيه التمثيل ليجسّد المعاني والأفکار التي يريد معالجتها[14].فغاية الشاعر من التشبيه السابق ليست ذِکر ما يُسقى وقت حاجته للماء, ونماء هذا النبات وازدهاره, وإنما غايته تجسيد أمر معقول وهو أثر التأديب في نفس الولد في مرحلة الصبا,وجعله مجسدا شاخصاً للعيان ، فعقد مقارنة بين أهمية التأديب في هذه المرحلة وأهمية الماء للنبات في مرحلة الغرس ، وجاءت صورة النبات وسيلة لإبراز غاية الشاعر وفکرته ، فشبّه الشاعر حال الصبي الذي يُتعهّد بالتأديب والرعاية في مرحلة الصبا ، وهو الوقت الصالح لصقل شخصية الطفل وتهذيبها ، بحال العود من النبات الذي يُغرس ويُتعهد بالريّ والرعاية حتى يزدهر وينمو ، فوجه الشبه الحاصل من انعقاد أطراف التشبيه هو بلوغ الغاية المنشودة من الطرفين ، فکلٌّ من الطرفين يُجدي فيه التعهد والرعاية ، وهذا الوصف الجامع للطرفين أمر تصوري لا صفة حقيقية في المشبه به ، فقد شبّه المعقول بالمحسوس ،[15] فأصبح الشبه شاخصاً أمام ناظريّ المتلقي يدرکه بحسه, ولا شکّ أنّ ذلک يحصل بعد التأول وإعمال الفکر.

 ولنضرب مثلاً آخر على جمال الصورة المستوحاة من تجسيد المعقول ونقله على ما يُدرک بالحسّ وهو بيت الشعر المنسوب إلى قيس بن الملوح:

 فأصبحتُ من ليلى الغداة کقابضٍ     على الماء خانته فروج الأصابع

 فقد جسّد الشاعر في هذا البيت عن طريق التمثيل خيبة أمله من نوال المحبوبة ، وجعَلَها شاخصة أمام المتلقي في صورة حسية بصرية يراها بناظريه ، وهي صورة الرجل الذي يحاول قبض الماء فيتسرب من خلال فروج الأصابع فلا يتمکن من شيء سوى البلل.[16]

 وعملية تجسيد المعقول وتشخيصه عملية نفسية بحت غايتها التأثير في نفس المتلقي ، وإثارة انفعاله المناسب ، وذلک عن طريق تشخيص المعاني في صور حسية ،يُخيّل للمتلقي أنها متحدة بها ومتمثلة فيها ، فالتشخيص أقدر على فعل التمثيلات في ذهن المتلقي ، وإحداث الاستجابة المطلوبة.[17] يقول الجرجاني في هذا:" فأول ذلک وأظهره ، أن أُنس النفوس موقوف على أنْ تُخرجها من خفيّ إلى جليّ ، وتأتيها بصريح بعد مکنّى ، وأن تردّها في الشيء تُعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم ، وثقتها به في المعرفة أحکم ، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس ، وعمّا يُعلم بالفکر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع لأنّ العلم المستفاد من طرق الحواس أو المرکوز فيها من جهة الطبع وعلى حدّ الضرورة ، يَفْضُل المستفاد من جهة النظر والفکر في قوة الاستحکام ، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام"[18]

 ومن التمثيلات التي أوردها الجرجاني للکشف عن جماليات الصورة المشخصة الصورة الواردة في بيت سعد بن ناشب:

 إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه          ونکّب عن ذکر العواقب جانبا

 فيرى الجرجاني أنّ سحر الصورة يکمن في هذا التشخيص الذي "أراک العزم واقفاً بين العينين, وفتح إلى مکان المعقول من قلبک باباً من العين"[19] فکان التأثير في النفس أبلغ.

دور المتلقي في إظهار جماليات الصورة:

 حظيت إشارات الإمام عبد القاهر الجرجاني إلى دور المتلقي في تَمَثُّل الصورة باهتمام الدرس النقدي الحديث, إذ اهتمّ النقاد بدور المتلقي في فهم النص والإبداع فيه, عن طريق النظرة المتأملة في النص التي تتجاوز ظاهر الألفاظ إلى روحها وإيحاءاتها, فغدا لديهم ما يُعرف بنظرية التلقي التي أخذت تتطور في الفکر النقدي, فأصبح النص يختلف باختلاف القارئ المتلقي , فکلّ متلقٍ يخلع على النص من ذاته وعوالمها الخاصة, فيغدو مبدعا جديدا.

 وبهذا لم تعد عملية الإبداع مقتصرة على المؤلِّف ، بل إن القارئ يشارک المؤلف في التفاعل مع النص والإبداع فيه ، فالعملية الإبداعية متشابکة ومعقّدة بحيث لا يمکن أن تحسم بالولاء لسلطة النص وحده, أو لسلطة المؤلف وحده ، بل لا بدّ من سلطة ثالثة تتکامل مع السلطتين الأخريين وهي سلطة المتلقي الذي يلج إلى عمق النص ، فيکشف عن أمور لم يصرح بها النص مباشرة.[20]

 وبهذا أخذ المتلقي دوره الفاعل في عملية الإبداع بوصفه رکناً مهماً من أرکان العملية الإبداعية ، فهو الذي يمنح العمل الإبداعي خلوده ويحفظ القيمة الجمالية للنص.[21] إذ بتنوع المتلقين وتغيرهم تبعا لتغير الزمان والمکان تتعدد قراءات النص الواحد فيبقى حيّاً ، ويتجدد مع کل فهم. فالمتلقي النبيه حينما يندغم مع النص يضفي عليه من سمات روحه ومن حصيلة تجاربه وخبراته النفسية والاجتماعية والذوقية.

 ودور المتلقي هذا بدا واضحا في نظرة الجرجاني إلى مفهوم التمثيل ، فذکر الإمام الجرجاني أنّ وجه الشبه قد يؤخذ من جملة أشياء يُضمُّ بعضها إلى بعض، وهو ما اصطلح المتأخرون على تسميته التمثيل أو التشبيه التمثيلي ، وقد أولى الإمام هذا النوع من التشبيه عناية کبيرة ، وبيّن دور المتلقي في تذوقه ؛ إذْ يقيم المتلقي الذکيّ في نفسه صورة يفکک فيها أجزاء الترکيب ، ويمحو دلالاته الإفرادية، ثم يعيد سبکها في صورة جديدة تختلف تبعاً لطبيعة المتلقي .

يقول في ذلک : " فيکون سبيله سبيل الشيئين يمزج أحدهما بالآخر ، حتى تحدث صورة غير ما کان لهما في حالة الإفراد ، لا سبيل الشيئين يجمع بينهما ، وتحفظ صورتهما " ([22]).

ويؤکد الإمام بيان هذه المسألة في التعامل مع صور المفردات ، وشخوص الدلالة الإفرادية للکلمات في أثناء معالجته للآية الکريمة : " مثَلُ الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها کمثل الحمار يحمل أسفاراً "([23]) . فيقول : " حتى يکون القياسُ قياسَ أشياء يبالغ في مزاجها حتى تتحد ، وتخرج عن أن تعرف صورة کلّ واحد منها على الانفراد ، بل تبطل صورها المفردة ، التي کانت قبل المزج ، وتحدث صورة خاصّة غير اللواتي عهدت ، وتحصل مذاقة لو فرضتُ حصولها لک في تلک الأشياء من غير امتزاج فرضتَ ما لا يکون، ولم يتمّ المطلوب، ولم تحصل النتيجة المطلوبة"([24]).

 يبدو جلياً في هذين النصين إلحاح الإمام الجرجاني على ثلاث قضايا مهمة في بناء الصورة هي:

الأولى: المزج ، فذکر لفظة ( يمزج ) واستبعد لفظة ( يجمع ) ؛ فلا يمکن أن تتکون لديک صورة إذا اقتصرت على جمع الأجزاء ، إنما تتکون من المزج أو المبالغة فيه ، حتى تصبح شيئاً واحداً وجديداً ، لا تلاحظ فيه حال المفردات ، التي کوّنت هذا الکلّ، وإنما تمحى أوصاف الجزء ، وکأنّها تفاعلت تفاعلاً کيماوياً ، ذهبت فيه خواصّ المادة الداخلة في الترکيب، ونتج من هذه المواد المتفاعلة ترکيبة لغوية جديدة هي التي تعتبر في الدلالة البلاغية.

الثانية: محو الدلالات الإفرادية، وهذه المسألة متصلة اتصالاً شديداً بسابقتها، فيرى الإمام الجرجاني أنّ هذا المزج تبطل فيه صور المفردات اللغوية، ويسلب منها دلالاتها قبل المزج ، ويکسوها دلالاتٍ خاصة جديدة تکون ضرورية في الإبانة ، وبغيرها لا يتمّ المطلوب.

الثالثة: مجهود المتلقي في إبداع الصورة ، يرى الإمام الجرجاني أنّ تفکيک أجزاء التمثيل ثمّ إعادة مزجها لتکوين صورة جديدة ، هو من عمل القارئ المتدبر أو البلاغي المتيقظ ، لأن الألفاظ المکتوبة والمقروءة هي هي ، وإنما يحدث هذا التفاعل عند القارئ المتأمل الذي ارتفع عن طبقة العامة في التعامل مع اللغة ، وهنا يشير الإمام إلى الفروق الفردية بين المتلقين في إبداع الصورة ، فيرى أن هذا مما لا يستوي فيه " اللبيب اليقظ ، والمضعوف المغفّل " ([25]).

 فالمتلقي اللبيب يبدع في النص ، ويشکل صوره ومفرداته ، وينزعها من دلالاتها القديمة، ويصوغ منها صوراً أخرى ، بعد أن کانت هذه الصور متواريةً وراء هذه المفردات المتناثرة، وإبداع المتلقي اللبيب هو کشف لخبايا النص وأسراره التي أودعها فيه صاحبه ، فهو إبداع يتوخى کشف إبداع ، وهذا محتاج إلى متلقٍ قادر على تشکيل صور کلية من مفردات جزئية ، فيغدو هذا المتلقي مبدعاً جديداً للنص لا يقل عن المبدع الأول.

 بدا لنا مما سبق أن الإمام عبد القاهر الجرجاني يميّز بين نوعين من المتلقين: أحدهما المضعوف المغفّل وهو الذي يقف عند ظاهر النص ولا يتآلف معه ، ولا يوظف خبراته النفسية والاجتماعية والذوقية في استنطاق النص ، فهو يرکن إلى النظرة العجلى ؛ لأنه قليل الصبر على الجهد والتأمل. أما النوع الثاني من المتلقين ، فهو اللبيب اليقظ الذي يتفاعل مع النص ويخلع عليه من روحه وخبراته وتجاربه ، وهذا النوع من المتلقين هو الذي استحوذ على اهتمام الجرجاني في إدراک مکنونات النص, وفي استخراج الدر الکامن في سبر النص. وبهذا ينکشف أمام ناظريّ هذا المتلقي اللبيب جماليات الإبداع, يقول الجرجاني: "من المرکوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه, کان نيله أحلى وبالمزية أولى فکان موقعه في النفس أجلّ وألطف وکانت به أضنّ وأشغف"[26]

 إذن الإبداع لا يتأتّى للمتلقي المضعوف المغفّل ؛ لأنه يحتاج إلى طلب وحنين واشتياق ومعاناة ، وهذه لا تتوفر إلا للمتلقي اللبيب المکابد المتأمل. ومن هنا يرى الجرجاني أنّ بلاغة التمثيل لا تتجلّى إلا بخفاء العلاقة بين طرفيّ التشبيه ، لکي تستحثّ عقل المتلقي وقدرته على استنباط مواطن انتقال الدلالة من حيّز المعقول إلى حيّز المحسوس ، فيراه محسوساً شاخصاً أمامه بعد أن کان مجرداً ، ويدرکه مفصّلا بعد أن کان مجملاً.

 ولا يخفى أنّ هذه الأمور التي في نظرة الإمام الجرجاني إلى مفهوم التمثيل، نجد لها مساحة واسعة في جهود النقاد المحدثين([27]) ، فکأنّ نظرات الإمام إلى تفکيک أجزاء الترکيب في التمثيل ومحو دلالاتها الإفرادية وإعادة مزجها بصورة جديدة يفيض عليها المتلقي من نفسه ومشاعره ، مثَّلت بذور الفکر النقدي الحديث في هذا المجال.

معالم تربوية في تحليل الجرجاني للتمثيل:

 تتکشف عبقرية الجرجاني عند مقارنة آرائه في إدراک القارئ لجماليات التمثيل، بنظريات التربويين في الإدراک ، فبنظرة متأنية إلى نظريات التعلم والتعليم في التربية، التي استقت مبادئها من علم النفس، وتحديداً ما يتعلق بالإدراک، نستطيع أن نلحظ ما کان من إلماحات عبد القاهر الجرجاني إلى هذه المبادئ ، نخصُّ منها[28] :

1.    حديثهم عن ضرورة التدرج من الکلّ إلى الجزء.(الجشطالت)

2.    حديثهم عن ضرورة مراعاة الفروق الفردية لدى المتعلمين.

3.    حديثهم عن ضرورة التدرج من المحسوس إلى المجرد.

 هذه بعض المبادئ القارة المستقرة لدى التربويين في مجال التعليم، التي أثبتها البحث النظري والتجريبي في ميدان علم النفس، ففيما يتعلّق بالمبدأ الأول يرى أصحاب النظرية (الجشطالتية)([29]) أنّ الفرد يلجأ إلى تنظيم مدرکاته على صورة أشکال وعلاقات تمکّنه من فهم العالم من حوله ، ويرون أنّ الخطوة الأولى في التعلم المعرفي هي عملية الإدراک أو التعرف على الأحداث في البيئة باستخدام الحواس ، حيث يدرک الفرد الأشياء إدراکاً کلياً ، ثم يبدأ بالتفصيل ، ويضربون لذلک أمثلة من ذلک : أنک تبصر الشجرة – مثلاً – کلاً متکاملاً ، وبعد إعادة النظر تبدأ بإدراک فروعها وأغصانها وأوراقها وثمارها. ومن القضايا الأساسية في النظرية الجشطالتية قضية الاهتمام بالاختلاف بين الکليات والمجموع الکلي للأجزاء المکوّنة لهذه الکليات ، فيرى أصحاب هذه النظرية أنّ الکليات تتسامى فوق المجموع الکلي للأجزاء المکوّنة لها ، فالنوع الأول من الکليات يشبه کومة من "الطوب" مثلا ، أما النوع الثاني فيشبه المنزل المکوّن من مجموع "الطوب" ، وهو يختلف کل الاختلاف عن مجموع الأجزاء المکونة له.[30] وقد انطلق التربويون من هذه النظرية في تعليم الطفل القراءة ، إذْ يعرضون عليه بدايةً الجملة التامة مقترنةً بصورة دالّة عليها ، ثم يسلطون الضوء على الکلمة المقصودة وصولاً إلى تجريد الحرف موضوع التعلّم ، فيکون إدراک الطفل للحرف قد تدرج من العام وهو الجملة إلى الخاص وهو الکلمة ، ثم إلى الأخصّ وهو الحرف موضوع التعلم.[31]

وقد سبق عبد القاهر أصحاب نظرية ( الجشطالت ) إلى مثل هذا القول ، عندما تحدّث عن مسألة التفصيل والإجمال ، فقد بنى أفکاره في هذه المسألة على أسس نفسية ، تتمثل في أنّ العقل يدرک الأشياء جملة أسهل من إدراکها مفصّلة ، وأنّ إدراک الجملة أسبق إلى النفس من إدراک التفصيل ، يقول الجرجاني:"الجملة أبداً أسبق إلى النفس من التفصيل ، وأنک تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة إلى التفصيل ولکنک ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر ولذلک قالوا: النظرة الأولى حمقاء. وقالوا: لم ينعم النظر ولم يستقصِ".[32] نلحظ هنا کيف رکّز الجرجاني على ضرورة انتقال المتلقي المبدع من الإجمال إلى التفصيل ، وذلک بتجاوز النظرة العجلى إلى النظرة المتأملة ؛ لأنّ جمال التصوير الأدبي لا ينکشف إلا بتأمل دقائق الأشياء ، وبالتعمق في التفاصيل ، وبإدراک الفروق الخاصة بين الأشياء. ولا تتوقف مسألة التفصيل على المتلقي وحده، بل تشمل المبدع الأول للنص ، فالمبدع الحاذق يعمد إلى التفصيل ، ويستحثّ متلقيه على الغوص في دقائق تفاصيله المرکوزة ، فيکتشفها ويبدعها من جديد.

وکذلک يتّضح تنبّه الإمام عبد القاهر إلى الأسس النفسية التي يقوم عليها الإدراک حينما بيّن السبب في سرعة بعض التشبيه إلى الفکر ، وإباء بعضه الآخر ، إذْ لا ينال إلاّ بعد قطع مسافة إليه ، وعمقٍ في التفکير ، فيعلل ذلک بأنّ الجملة دائما أسبق إلى النفوس من التفصيل ، فترى بالنظر الأول الوصف على الجملة ، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر ، وهکذا الحکم في السمع وغيره من الحواس ، والأمر في القلب کذلک ، تجد الجمل دائما تقع في الخاطر أولاً ، وترى التفاصيل لا تحضر إلاّ بعد إعمال الروية ؛ فالاشتراک في الصفة إذا کان من جهة الجملة بحيث لا يشوبه شيء من التفصيل ، نحو أنّ کلا الشيئين أسود ، فهو يقلّ عن أن يُحتاج فيه إلى إعمال الفکر ، فإن دخل في التفصيل شيء نحو : أن هذا السواد صافٍ برّاق ، احتاج بقدر ذلک إلى إعمال الفکر ، فإنْ زاد تفصيله بخصوصية تحتاج إلى فضل تأمّل ، ازداد الأمر قوة في اقتضاء الفکر [33].

ومما يتصل بهذه النقطة أنّ علماء النفس جعلوا دقة التفاصيل في الرسم واحداً من مقاييس الذکاء لدى الأطفال ، فمثلاً لو کلّفنا مجموعة من الأطفال رسم يد إنسان ،فسنجد بعضهم يرسم اليد دون تفصيل الأصابع ،وبعضهم يبرز الإبهام وحده ، وبعضا آخر يفصّل الأصابع الخمس، ويزيد آخرون الأمر تفصيلاً بإبراز عُقل الأصابع ، فکلما زاد التفصيل دلّ على زيادة نسبة الذکاء.

وحول هذا المعنى يذکر الجرجاني في حديثه عن التشبيه الذي يوغل في التفاصيل ، أنه بمقدار لمح هذه التفاصيل يتفاضل البلغاء ، ويمکن الموازنة بينهم، وتفضيل البليغ الذي يتنبّه إلى التفاصيل.أمّا إدراک الأمور جملةً, فهو مما تستوي فيه الأقدام.[34]

أما المبدأ الثاني وهو الفروق الفردية، فنقصد به تلک الصفات التي يتميز بها کل إنسان عن غيره من الأفراد سواء کانت تلک الصفة إدراکية أم انفعالية أم جسميةأم في سلوکه الاجتماعي. ويُعلي التربويون من أهمية إدراک الفرود بين الأفراد وضرورة مراعاتها في التعامل مع المتعلمين ، فرعاية الفروق الفردية من أسس الصحة النفسية والتربية السليمة التي تقوم علىالاعتراف بالفردية وأهمية کشفها وحسن استغلالها وتوجيهها إلى أقصى الحدود الممکنةلتکامل الحياة ونجاحها، فالتربية السليمة تعتبر کل فرد غاية ووسيلة في حد ذاته ، ويجبأن تستغل مواهبه لتحقيق مبدأ التکامل والتضامن. ولا شک أنّ معرفة الفروق الفردية تساعد الفرد على تفهم نفسه واستغلال مواهبه ومعرفة إمکاناته ، ولعل الإنسان ولا سيما الراشد إذا کان مثقفا يستطيع أن يفهمکثيرا من إمکانياته وان يسعى لاستغلالها بطريقة ايجابية يضمن من خلالها النجاح.[35]

والذي نلحظه أنّ الجرجاني أعطى هذا المبدأ التربوي قيمة عليا في إدراک جماليات التمثيل وروعة الصورة, فقد ألمحنا في الصفحات السابقة إلى ما کان من إشارات عبد القاهر الجرجاني في هذا المجال في غير موضع ، خاصة في أثناء حديثنا عن دور المتلقي في إبداع صورة تشبيه التمثيل ؛ فقد ظهر أن الشيخ عبد القاهر الجرجاني کان يقرر في حديثه عن المتلقين ، أنهم لا يستوون في إدراک الصورة ، أو في إعادة تشکيلها وتذوقها ، فکان يشير إلى صنفين من المتلقين : متلقٍ لبيب يقظ ، قادر على کشف خبايا النص والإبداع ، أما الصنف الآخر فهو المضعوف المغفل [36].

ومن المؤکد أن هذا التفاوت بين المتلقين يؤدي إلى تباين في إدراک الصورة والنفاذ إلى جماليات تشبيه التمثيل . وهو الأمر الذي أعلى من شأنه التربويون المحدثون ؛ إذ جعلوا من رکائز التعلم مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين ، بحيث تقدم المعلومة للمتعلمين بطرق متنوعة تتناسب وقدراتهم الإدراکية.

أمّا المبدأ الثالث وهو ضرورة التدرج من المحسوس إلى المجرد فقد احتفى التربويون به کثيراً ، فجعلوا من قواعدهم العامة في التعليم ضرورة التدرج من المحسوس إلى المجرد ، فيرى "برونر" أنّ المتعلّم ينظم معارفه من خلال التدرج من مرحلة النشاط العملي الذي يُدرک بالحواس ، إلى مرحلة النشاط التصوري شبه المحسوس ، وفي النهاية يصل إلى القدرة على ممارسة النشاط الرمزي الذي يُدرک بالتفکير المجرّد.[37] وقد اعتمدوا في ذلک على مبادئ علم النفس الذي يقرر أنّ الفرد لا يدرک المعاني إلاّ بمدلولاتها الحسية ، وهذا ما يحدث معنا بالفعل ؛ فهذه الألفاظ التي نختزنها في ذاکرتنا مرتبطة بصور ذهنية اشتقت من صورها الحسية ، ومنها اکتسبت الدلالات المقترنة بتلک الألفاظ ، وإلاّ فإنّ المدرکات المجردة تکون مجرد ألفاظ لا معنى لها.

 وقد أشار الإمام الجرجاني إلى الانتقال من المحسوس إلى المجرد ، وجعله سبباً قويا ظاهرا في جمال التمثيل وفي بلوغه الغاية في التأثير في النفوس ، فقال: " فأول ذلک وأظهره أنّ أُنسَ النفوس موقوف على أنْ تخرجها من خفيّ إلى جليّ ، وتأتيها بصريح بعد مکنّى ... أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس ، وعمّا يعلم بالفکر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع ؛ لأنّ المستفاد من طرق الحواس، أو المرکوز فيها من جهة الطبع وعلى حدّ الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفکر في القوة والاستحکام ... ومعلوم أنّ العلم الأول أتى النفس أولا عن طريق الحواس والطباع ، ثم من جهة النظر والرويّة ، فهو إذن أمسّ بها رحماً ، وأقوى لديها ذمما ، وأقدم لها صحبة ، وآکد عندها حرمةً "([38]) .

يمثل هذا النص توارداً ظاهرا بين کلا المذهبين : مذهب عبد القاهر في تأکيده أسبقية الحسّ وأفضليته في إدراک الأشياء والولوج إلى جمالها ؛ فالتمثيل حينما يقوم بتجسيد صورة عقلية في صورة حسية فإنّ ذلک يسهم في تضافر الفکر والحواس معاً في کشف جمال التصوير ، ومذهب التربويين في أهمية التدرج من المحسوس إلى المجرد في تعليم الناشئة ، لأنّ المدرک بالحواس أثبت في النفس من المدرک المجرد.

خاتمة

 مثّل مفهوم عبد القاهر الجرجاني للتمثيل شاهداً من شواهد العبقرية الفذة التي تمتّع بها هذا الإمام المبدع ؛ إذْ تجلّت فيه ملامح النظر الدقيق الذي يتجاوز ظاهر الأمور إلى سبر أغوارها ، والغوص في قيعانها للکشف عن مکنون أسرارها . ولا شکّ أنّ الإمام عبد القاهر قدّم للقارئ أداةً فاعلة تسهم في صقل ذوقه ، وتجعله أکثر قدرة على کشف جماليات التمثيل ، وما يحمله من صور بديعة ، من خلال ترکيزه على نقل الصور الذهنية للتشبيهات والتمثيلات إلى صور حسيّة تتجاوز الفکر کوسيلة إدراک إلى إشراک الحواس في تلمّس جماليات التصوير .

وأظهر هذا المفهوم سعة أفق الإمام عبد القاهر ؛ ففيه إشارات نقدية حصيفة عدّها النقاد المحدثون فتحاً عظيماً في مجال دراسة النصوص وتحليلها ، من ذلک حديثه عن تفکيک الترکيب ثم إعادة بنائه بناءً جديدا ، بحيث يخلق مذاقاً غير الأول، وحديثه عن دور المتلقي في الإبداع في التصوير الذي يجلبه التمثيل ، إذْ يصبح القارئ مبدعاً جديداً .

يضاف إلى ذلک ما کان من توارد بين الإمام عبد القاهر الجرجاني والتربويين في حديثهم عن ضرورة مراعاة الفروق الفردية ، وحديثه عن التفاوت بين البلغاء في تأوّل وجه الشبه العقلي ، وکذلک حديثهم عن ضرورة التدرج من الکل إلى الجزء ، ومن المحسوس إلى المجرد ، وحديثه عن أسبقية الجملة على التفصيل في إدراک الأمور ، وأسبقية الإدراک بالحس على الإدراک بالفکر المجرد ، وتنبهه إلى التفاوت في إدراک التفاصيل بين البلغاء ، وکيف يشکل ذلک التفاوت مقياساً للفطنة والتفاضل عنده ، ومقياساً للذکاء عند التربويين .

هذا بعض ما استخلصناه من شواهد العبقرية الکامنة في حديث الشيخ عبد القاهر الجرجاني عن تشبيه التمثيل ، ويبقى حديثه ذاک مفتوحاً لأيّ قارئ ليستخلص منه مزيداً من تلک الإشارات المرکوزة فيه أو التي تهوّم في فضائه .



[1]-عبد القاهر الجرجاني(ت471 ه) :أسرار البلاغة ، تحقيق هـ. ريتر ،مطبعة وزارة المعارف ،إستانبول ،1954،وأعادت طبعه بالأوفست مکتبة المثنى، بغداد،ط 2 ،1399ه/1979م،ص80-85 .

- [2] ابن الأثير(ت637 ه): المثل السائر في أدب الکاتب والشاعر ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ،مکتبة مصطفى البابي الحلبي ،مصر،1358ه/1939م،ج1 ، ص 388 .

3-أبو يعقوب السکاکي(ت626ه): مفتاح العلوم ،ط1، مکتبة مصطفى البابي الحلبي ،مصر،1356ه/1935م،ص 164.

[4]- الخطيب القزويني(ت739ه): الإيضاح في علوم البلاغة،شرح محمد عبد المنعم الخفاجي، ط2،مکتبة الکليات الأزهرية،القاهرة،ج4، ص 90 .

[5]- ينظر فضل حسن عباس : البلاغة فنونها وأفنانها / علم البيان والبديع ، ط1 ، دار الفرقان ، عمان –الأردن,1987 ، ص63

[6]- محمد برکات أبو علي :معالم المنهج البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني ،ط1، دار الفکر ،عمان ،1984،ص71 ـ 111 .

[7]- عبد القاهر الجرجاني ، ص 81 .

[8]- السابق، ص83 .

[9]- محمد عبد المطلب : البلاغة العربية قراءة أخرى ، مکتبة لبنان ناشرون ،1997م ص 138 .

[10]- ابن منظور(ت711ه) : لسان العرب،دار صادر، بيروت،مادة ( مثل ) .

[11]- سورة الجمعة ،الآية 5 .

[12]ينظر محمد حسين علي الصغير: الصورة الفنية في المثل القرآني ، دار الرشيد، بغداد،1981 ،ص169 .

[13]- ابن المعتز: ديوان ابن المعتز،دار صادر ،بيروت ،1961، ص 389 .

[14]محمد جابر الفياض : الأمثال في القرآن الکريم، المعهد العالمي للفکر الإسلامي والدار العالمية للکتاب الإسلامي، الرياض ،ط2 ، 1995 ، ص124.

[15]علي البدري : علم البيان في الدراسات البلاغية ، القاهرة ،1984 ، ط2 ، ص 43.

[16]عبد المجيد ناجي : الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت ، ط1 ، 1984 ، ص 186.

[17]السابق، ص128.

[18]عبد القاهر الجرجاني ، ص121.

[19]السابق ، ص128.

[20]فضل ثامر : من سلطة النص إلى سلطة القارئ ، مجلة الفکر العربي ،ع49 ، 1988،ص 98

[21]محمد مبارک : استقبال النص عند العرب ، المؤسسة العربية للدراسة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1999 ، ص 52

[22]- عبد القاهر الجرجاني ، ص 90 .

[23]- سورة الجمعة ،الآية 5 .

[24] - عبد القاهر الجرجاني ، ص 91 .

[25]-السابق ، ص 84 .

[26]عبد القاهر الجرجاني ، ص180

[27] ناظم خضر: الأصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق، ط ١،1997،ص133. وجون ستروک(تحريره) : البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا ، ترجمة محمد عصفور ،سلسلة عالم المعرفة ،206 ، 1416ه/ 1996م ، ص 207 . و محمد علي الکردي: ظاهرة التلقي في الأدب، مجلة علامات في النقد المجلد 8 عدد 32 النادي الأدبي الثقافي بجدة ص10-23 . وإبراهيم السعافين :جماليات التلقي في الرواية العربية المعاصرة ، مجلة فصول ، م16 ،ع3 ،1997م.

-[28]ينظر: George M.Gazda)) جورج م. جازدا: نظريات التعلّم والمنهج المقارن ، ترجمة علي حسين حجاج ،سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والآداب – الکويت رقم70 ، ص200-201 ، وينظر بصورة عامة : محمد جاسم محمد : نظريات التعلم ، ط1، دار الثقافة،عمان،2006م ، ومحيي الدين طوق ويوسف قطامي وعبدالرحمن عدس: أسس علم النفس التربوي، ط2، دار الفکر، عمان،1422ه/2002م.

[29] - فتحي مصطفى الزيات : سيکولوجية التعلم بين المنظور الارتباطي والمنظور المعرفي، ط2 ، دار النشر للجامعات ، القاهرة ، 1424ه/2004م ، ص 241-266 ، ومحمد جاسم محمد ، ص 151-163 .

[30]ينظر: George M.Gazdaجورج م. جازدا ، ص 201

[31] علي أحمد مدکور ، تدريس فنون اللغة العربية ، دار الشواف –مصر ،1991، ص155-156.

[32]عبد القاهر الجرجاني، ص160

السابق ، ص 160.[33]

[34]السابق ، ص 160 .

[35]سليمان الخضيري : الفروق الفردية في الذکاء، دار الثقافة للطباعة والنشر- القاهرة ، 1989\1990 ، ص17-18

2 عبد القاهر الجرجاني ، ص 84 .

[37] علي سليمان السيد : نظريات التعلم وتطبيقاتها في التربية ، مکتبة الصفحات الذهبية ،2000م، ط1،ص201-204

[38]- عبد القاهر الجرجاني ، ص 108-109.

المصادر والمراجع
1.       القرآن الکريم.
2.       إبراهيم السعافين : جماليات التلقي في الرواية العربية المعاصرة ، مجلة فصول ، م16 ،ع3 ،1997م.
3.ابن الأثير ضياء الدين نصرالله بن محمد(ت637 ه): المثل السائر في أدب الکاتب والشاعر ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، مکتبة مصطفى البابي الحلبي ،مصر،1358ه/1939م.
4.       ابن المعتز عبد الله أبو العباس: ديوان ابن المعتز، دار صادر ودار بيروت ، بيروت،1961م .
5.       ابن منظور محمد بن مُکَرَّم بن علي جمال الدين (ت711ه) : لسان العرب ، دار صادر، بيروت.
6.جورج م. جازدا George M.Gazda )): نظريات التعلّم والمنهج المقارن ، ترجمة علي حسين حجاج ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والآداب – الکويت رقم70.
7.       جون ستروک (تحريره) : البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا ، ترجمة محمد عصفور ، سلسلة عالم المعرفة ، 206 ، 1416ه/ 1996م .
8.       الخطيب القزويني(ت739ه) : الإيضاح في علوم البلاغة ، شرح محمد عبد المنعم الخفاجي، ط2 ، مکتبة الکليات الأزهرية ، القاهرة .
9.       السکاکي سراج الدين أبو يعقوب(ت626ه): مفتاح العلوم ، ط1، مکتبة مصطفى البابي الحلبي ، مصر، 1356ه/1935م.
10.    سليمان الخضيري : الفروق الفردية في الذکاء ، دار الثقافة للطباعة والنشر- القاهرة ، 1989\1990.
11.عبد القاهر الجرجاني(ت471 ه) : أسرار البلاغة ، تحقيق هـ. ريتر ، مطبعة وزارة المعارف ، إستانبول ،1954 ، وأعادت طبعه بالأوفست مکتبة المثنى ، بغداد ، ط 2 ، 1399ه/1979م .
12.    عبد القاهر الجرجاني(ت471 ه) : أسرار البلاغة ، تعليق محمود محمد شاکر ، مطبعة المدني ،القاهرة ، ودار المدني ، جدة ، ط 1 ، 1991 م.
13.    عبد المجيد ناجي : الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، ط1 ، 1984.
14.    علي البدري : علم البيان في الدراسات البلاغية ، القاهرة ،1984 ، ط2.
15.    علي أحمد مدکور: تدريس فنون اللغة العربية ، دار الشواف –مصر،1991.
16.    علي سليمان السيد : نظريات التعلم وتطبيقاتها في التربية ، مکتبة الصفحات الذهبية ،2000م ، ط1.
17.    فتحي مصطفى الزيات : سيکولوجية التعلم بين المنظور الارتباطي والمنظور المعرفي ، ط2 ، دار النشر للجامعات ، القاهرة ، 1424ه/2004م .
18.    فضل ثامر :من سلطة النص إلى سلطة القارئ ، مجلة الفکر العربي ، ع49 ، 1988.
19.    فضل حسن عباس : البلاغة فنونها وأفنانها / علم البيان والبديع ، ط1 ، دار الفرقان ، عمان –الأردن ، 1987.
20.    محمد برکات أبو علي : معالم المنهج البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني ، ط1، دار الفکر ،عمان ،1984م .
21.    محمد جابر الفياض: الأمثال في القرآن الکريم ، المعهد العالمي للفکر الإسلامي والدار العالمية للکتاب الإسلامي ، الرياض ، ط2.
22.    محمد جاسم محمد : نظريات التعلم ، ط1 ، دار الثقافة ، عمان ، 2006م.
23.    محمد حسين علي الصغير : الصورة الفنية في المثل القرآني ، دار الرشيد ، بغداد ، 1981.
24.    محمد عبد المطلب : البلاغة العربية قراءة أخرى ، مکتبة لبنان ناشرون ،1997م .
25.    محمد مبارک : استقبال النص عند العرب ، المؤسسة العربية للدراسة والنشر ، بيروت ، ط1 ،1999.
26.    محيي الدين طوق ويوسف قطامي وعبدالرحمن عدس: أسس علم النفس التربوي ، ط2 ، دار الفکر ، عمان ، 1422ه/2002م.
27.    ناظم خضر :الأصولالمعرفيةلنظريةالتلقي ،دارالشروق ،ط١ ،1997.