أبو العلاء المعري والتفکير الفلسفي في لزومياته

المؤلف

محاضر بجامعة الباحة کلية العلوم والآداب بالمخواه


فقد تميز العصر العباسي  بنقلة  حضارية کبرى کانت نتيجة اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة ، وکان نتيجة هذا الاتصال أن  تأثر  شعراء العصر العباسي  بالعلوم  التي  نقلوها عن الأمم الأخرى کالفلسفة [1] والمنطق[2] ، وبرز مجموعة من الشعراء  الذين  وظفوا هذه العلوم في شعرهم ، وحملوا لواء التجديد مع المحافظة على القديم أمثال أبي تمام والمتنبي والمعري.

إن تاريخ الإبداع البشري کله قائم على الإضافة والتجريب،فالتجريب هو المصدر الأهم الذي يحقق الإضافة الإبداعية النوعية المتميزة ، وصحيح أن عملية التجريب قد تصل إلى الإخفاق أحياناً ولا يحالفها النجاح، لکن الصحيح أيضاً أن التجريب هو الذي يفتح الآفاق أمام ظهور الجديد وأمام التطور بشکل عام .

فالتجريب يصدر عن رغبة في رؤية الأشياء من زاوية جديدة ، وکسر قواعد المنظور التقليدي ، فالتجريب مغامرة فنية وعقلية وروحية، تحاول أن تلبي حاجات عصر جديد، وترتبط بالأفکار والتصور والمذاهب الفلسفية التي تميز العصر.

ومن هنا کان  في الشعر العربي القديم محاولات تجريبية قام بها الشعراء، وکانت بعض هذه المحاولات بذرة أولى لما نلحظه في القصيدة العربية المعاصرة، ومن هنا کان البحث عن أبي العلاء المعري والتفکير الفلسفي في لزومياته؛ باعتبار أن عمل أبي العلاء في لزومياته عمل إبداعي جديد ، استطاع من خلاله أن ينتج شعراً يقوم على أفکار  ونظرات فلسفية ، بناه وفق تخطيط دقيق، وألزم نفسه بلوازم شکلية معقدة ، أخرجها في ديوان شعري يختلف، شکلاً ومضموناً، عن إنتاج الشعراء المعاصرين والسابقين له، إذ  مرت حياه المعري بمرحلتين اختلف فيهما شعره اختلافاً کبيراً:

  1. مرحلة ما قبل العزلة ويمثلها ديوانه (سقط الزند) ، ويشمل  الموضوعات التقليدية من مدح وغزل ورثاء وغيره، ويشغل المدح القسم الأکبر منه؛ ففيه أربع وثلاثون قصيدة في المدح، ومع أنه لم يتکسب بشعره إلا أن هذا المدح أرجعه بعض شراحه إلى أنه کان من سبيل التدريب والمران على قول المدح، أما الهجاء فقد اختفى من ديوانه؛ وذلک لأن نفسه تأبى عليه أن يتمثل فيها الحقد والکراهية التي وجدها من معاصريه ، ويعد سقط الزند من الناحية الفنية امتداداً لمذهب المتنبي الذي کان أبو العلاء متأثراً به.             
  2. مرحلة ما بعد العزلة ويمثلها ديوانه (اللزوميات) ، حيث تمثل اللزوميات  مذهبه الفني في الشعر ، ولم تکن قضية أبي العلاء في النقد العربي قضية الأصالة الشعرية واختلاف النقاد حولها، کما کان الموقف مع المتنبي، وإنما کانت قضية جديدة ظهرت بداياتها  عند أبي تمام، ثم المتنبي،ثم  المعري، وهي قضية توظيف الفلسفة في  الشعر ،  و کيف تمکن المعري  من  تطويع الشعر للفلسفة بشکل جعل من  المؤرخين له وصفه بالفيلسوف ، ومن هنا يدور  البحث حول عدة إشکالات  أبرزها :
  • أبو العلاء المعري  و ثقافات عصره .
  • السبب الذي دفع المعري للاعتزال في منزله ،وأبرز مظاهر هذا الاعتزال في حياته.
  • إنتاجه الشعري بعد إعلان عزلته .
  • التفکير الفلسفي في لزوميات المعري.
  • تطويع الشعر للفلسفة  في  اللزوميات .
  • رأي الباحثين في  لزوميات أبي العلاء   .

أبو العلاء[3] المعري و ثقافات عصره:   ولد أبو العلاء المعري سنة 363هـ  ، وهو عربي  ينتسب إلى قبيلة عربية هي قبيلة تنوخ  اليمنية ،ولم يکد يبلغ الرابعة من عمره حتى أصيب بمرض الجدري، فذهب بصره، ، وقد نشأ  المعري في أسرة عرفت بالعلم، وکانت على قدر کبير من الثقافة الدينية مما أتاح لکثير منهم تولي منصب القضاء، ولم يکتف بذلک بل ثقف نفسه بثقافات عصره؛ وذلک عن طريق رحلاته لطلب العلم، فقد سعى إلى تحصيل ثقافات عصره المختلفة عن طريق رحلاته، يساعده في ذلک ذکاء حاد، وذاکرة قوية، وبصيرة نافذة، وحس مرهف،  وحافظة لا تنسى شيئاً مما سمعته وهو القائل عن نفسه : "ما سمعت شيئاً إلا حفظته وما حفظت شيئاً  فنسيته" ، ويتفق المؤرخون له بأنه  شاعر حکيم فيلسوف، ويذکر البعض أنه  عرف بالزندقة،   والزهد الفلسفي، فيشکک في
صحة إسلامه.

وعن رحلاته  التي ساهمت في تشکيل مذهبه الشعري في لزومياته فقد ارتحل في بلاد الشام متنقلاً بين مدنها أنطاکية وطرابلس واللاذقية  يستزيد علماً، ورحل بعدها إلى بغداد ولم   يمکث بها  طويلاً حيث أقام بها سنة وأربعة أشهر فقط ، لکن هذه الرحلة  أثرت فيه تأثيراً بالغاً، إذ کانت  بغداد مرکزاً للعلم والعلماء ، بالإضافة إلى المذاهب الدينية والفلسفية ، فتمکن من إتقان  العربية والمواد اللغوية وأنواع الثقافات المختلفة من يونانية وفارسية وهندية، کما وتعمق في المذاهب الکلامية والتصوف،  فاستغل هذه الحرکة العلمية النشطة في بغداد فأکب على خزائن کتبها ، واتصل بعلمائها حتى ثقف نفسه ثقافة واسعة ظهرت في إنتاجه بعد ذلک.

وتتلخص "مصادر أبي العلاء الثقافية في : الثقافة العربية، الثقافة الأجنبية، رحلته إلى بغداد، بالإضافة إلى الاستعداد العقلي الذي فطر عليه"،[4] حيث  کان حب العلم وتحصيله دأب الشعراء  العباسيين المبدعين قبله، فقد تمثلوا الفلسفة في شعرهم وشغفوا بها، وهو شغف جعلهم يمزجونها بمعانيهم وخواطرهم، وکان بدايتهم أبو تمام حيث  زاوج بين الشعر والفلسفة بأسلوب عرف به ، وتبعه شعراء حذو حذوه وإن اختلفوا في التوظيف، فابن الرومي عرف بتحليل المعاني تحليلاً مستقصياً، والمتنبي تميز بفلسفة أخرجت منه حکماً رائعة،  وقد بلغ التأثر بهذه الثقافات وتوظيفها في الشعر  قمته  عند المعري وذلک في ديوانه (اللزوميات).

وقد بدأ  التحول  في حياة أبي العلاء  بعد عودته من  بغداد إلى بلدته ، حيث  لزم بيته واعتزل الناس، وأسباب هذا التحول متعددة جعلته ينظر إلى الحياة بمنظار معاکس  وهي :

  • إحساسه المبکر بمحنة فقده لبصره وأنه لا يحيا حياة الناس، وهذا جعل نفسه حزينة يائسة ،وجعله  هذا ينظر إلى الحياة من زاوية الشر دون الخير .
  • الوضع السياسي في عصره فقد فسدت الحياة السياسية.
  • تأثر  الحياة الاجتماعية بهذا الفساد  حيث کان مزمعاً على أن يقيم في  بغداد إلى  أن يوافيه يومه "ولکن لما رأى من تقطيب الرؤساء، و الأعيان، وتنافسهم في جلب النار إلى أقرانهم والافتتان، وأن الدنيا کما هي، مفطورة على الشرور والدواهي. وأن لذائذ الحياة ورغائبها، والمشتهيات ومطايبها من تقدير العزيز العليم، لا مدخل للجهد والکد في زيادة حبّه على ما منح الرازق الحکيم".[5] خرج منها متخذاً  قرار عزلته.

کان لخيبة الأمل في بغداد أثرها البالغ في نفسيته نتيجة ما لقي من حسد وبغض ، وسوء معاملة بعض الأدباء، ومنها ما حصل بينه وبين الشريف المرتضى ، حيث "حضر أبو العلاء المعري يوماً بمجلس الشريف الرضي، وکان أبو العلاء من غلاة شيعة المتنبي، فسمع الشريف ينال منه ويتعجب من إفراط الناس في استحسان شعره فقال له المعري کيف يکون ذلک في شأن أبي الطيب ولو لم يکن له إلا القصيدة التي أولها:

لک يا منازل في القلوب منازل                              أقفرت أنت وهنّ منک أواهل

لنا بها السبق واستحق التقديم، فعجب الشريف لاختيار المعري لهذه القصيدة مع إنها ليست من فرائد المتنبي، وله الکثير مما هو خير منها فراجع أبياتها في نفسه حتى انتهى إلى
قوله فيها:

 وإذا أتتک مذمتي من ناقص                                فهي الشهادة لي باني کامل

ففطن لما أراد المعري. ويقال: إنه أهانه لذلک"[6]. حيث أمر المرتضى بسحب المعري من رجله إلى خارج المجلس، ومن هنا أحس بمدى قسوة المجتمع وأهله عليه.

زاد من هذا الإحساس مرض أمه ورغبتها رؤيته قبل موتها، حيث ماتت ولم يرها  مما عجل في اتخاذ قراره بأن  يعتزل الناس .

   ولهذه الأسباب مجتمعة نظر  المعري  إلى الحياة  نظرة تشاؤم ، وزهد في  ملذاتها، ورأى  أنها  مليئة بالشر،سواء حياة المجتمع، أو الحياة السياسية، أو حياته الشخصية ،ومن هنا لزم بيته وبدأت عزلته وأعلنها في قوله[7]:       

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني                                    فَلا تَســــــأَل عَنِ الخَبَــــــــــرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُــــزومِ بَيتي                                    وَکَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

وقد علق د/ شوقي ضيف على هذين البيتين بقوله: " سجون ثلاثة أحاط بها أبو العلاء نفسه أو قل أحاطت بأبي العلاء ،فبصره  في حجاب أو في سجن صفيق وهو في بيته لا يريم، ونفسه سجينة في جسمه.وسجن رابع لم يحدثنا عنه في هذين البيتين وهو زهده الذي أمسک وراء قضبانه الغلاظ حياته اليومية في مطعمه وملبسه ، فإذا هو يلبس خشن الثياب ولا يطعم سوى
العدس والتين".[8]

وبعزلته بدأت لديه تحولات في حياته ، فقد زهد في متاع الحياة فامتنع عن الزواج، وحرم ذبح الحيوان والطير وأکل لحومهما ، ولبس خشن الثياب ،وعاش نباتياً ،وانقطع في بيته عن الناس وعکف على کتبه ، ولکن ذلک لم يمنع من أن يکون بيته مکاناً يلتف فيه تلاميذه ينهلون من علمه ويکتبون عنه، فهو لم يمنع الناس منه وإن امتنع هو عنهم .

لقد أنتج المعري بعد إعلان عزلته کتباً کثيرة من أشهرها: اللزوميات، رسالة الغفران، الفصول والغايات، ذکرى حبيب، معجزة أحمد، عبث الوليد. ونقف عند (اللزوميات) ففيها تظهر فلسفة  المعري ، حيث شکلت  حياة المعري  وأثرها في نفسيته ، والظروف التي أحاطت به، والثقافة التي اکتسبها عن طريق الرحلات، ثقافة متميزة، فاتسم بعقل فلسفي تمثل الفلسفة الإسلامية ، والفلسفة الأجنبية من هندية وفارسية ويونانية، زاوج بينها حتى خرج بفلسفة  جديدة   ( فلسفة علائية) لها أصولها ومقوماتها وطوابعها المميزة  و التي  أثرت في تشکيل اتجاهه الشعري.

لقد أطلق أبو العلاء المعري على ديوانه الذي کتبه في عزلته (لزوم ما لا يلزم)، ويعد بهذا  الصنيع من أوائل الشعراء الذين عمدوا إلى تسمية دواوينهم، ومعنى لزوم ما لا يلزم" أن يلتزم الشاعر في شعره قبل روِي البيت من الشعر حرفاً فصاعداً،على قدر قوته،وبحسب طاقته،مشروطاً بعدمالکلف منه أن يلتزم حرکة مخصوصة قبل حرف الروي أيضا وهو في رأي ابن الأثير منأشق هذه الصناعة مذهباً،وأبعدها مسلکاً.وعلى ذلک فاللزوم مظهر من مظاهر الصناعة اللفظية."[9] وهذا هو حد اللزوم، وقد وجدت اللزوميات قبل المعري وذلک عند کثير في تائيته[10]:

 

قلوصيکُما ثمّ ابکيا حيثُ حلَّــــــــــتِ

 

 

خليليَّ هـــــــــــذا ربعُ عُزَّة َ فاعقـــــــــــــلا

وبِيتاً وَظِلاَّ حَيْثُ باتـــــــــتْ وظلّـــــــــتِ

 

 

ومُسّا تراباً کَانَ قَدْ مَسَّ جِلدهـــــــــا

ذنوباً إذا صَلَّيْتما حَيْــــــــــثُ صَلّــــــــتِ

 

 

ولا تيأسا أنْ يَمْحُوَ الله عنکُمـــــــــــــــــا

ولا مُوجِعَــــــــــــاتِ القَلـبِ حتَّى تَوَلَّتِ

 

 

وما کنتُ أدري قبلَ عَزَّة َ ما البُکـــــا

إلينــــــــــا وأمّا بالنـــــــــــوالِ فضنَّـــــــــــتِ

 

 

وما أنصفتْ أمّا النســــــــــاءَ فبغضَّتْ

قريـــــــشٌ غـــــــداة َ المأزمينِ وصلّـــــــــتِ

 

 

فَقَدْ حَلَفَتْ جَهْداً بما نحـــــــــــــرَتْ له

بفيفــــــــــــــاءِ آلٍ رُفقــــــــــــــــة ٌ وأهلَّـــــــتِ

 

 

أُناديکَ ما حجَّ الحجيجُ وکبَّـــــرتْ

ومِنْ ذي غَــــــــزَالٍ أشعــــرَتْ واسْتَهَلَّتِ

 

 

وما کبَّرتْ من فوقِ رُکبة َ رُفقـــــــة ٌ

کناذرة ٍ نــــــــذراً وفــــــــــتْ فأحلــــــــــــّتِ

 

 

وکانت لقطع الحبل بيني وبينهــــا

إذا وُطِّنت يوماً لها النّفسُ ذلّــــــــــــــتِ

 

 

فقلتُ لها : يا عزُّ کــــــــلُّ مصيبـــــــة ٍ

تَعُمُّ ولا عَميــــــــــــــــاءَ إلاّ تجلّـــــــــــــــــــتِ

 

 

ولم يلقَ إنسانٌ من الحــــــــبِّ ميعـــة ً

فقُل نفــــــــــــسُ حـــــــــرٍّ سُلِّيت فَتَسلَّتِ

 

 

فإن سأَلَ الوَاشُونَ فيـــــــــــــمَ صرمْتَها

من الصُمِّ لو تمشي بها العصمُ زلَّتِ

 

 

کأَنّي أُنادي صَخْرَة ً حِينَ أَعْرَضَتْ

 

 کما وجد عند الحطيئة نظير ذلک حيث التزم  في بعض قوافيه إعادة مالا يلزمه طلباً للزيادة في التناسب والتماثل، ومن ذلک قوله[11]:

أَلا مَنْ لِقَلْبٍ عارِمِ النّظـــــــــــــــراتِ                       يُقَطِّعُ طُولَ الليلب الزَّفَــــــــــراتِ

إذا ما الثُّريا آخِرَ الليلِ أعْنَقَــــت                        کَواکِبُها کــالجِزْعِ مُنْحَدِرَاتِ

هنالک لا أخشى مقالة قائـــــــلٍ                       إذا انتبذ العزّاب في الحجَــــــرات

لهم نَفَرٌ مِثْلُ التُّيوسِ ونِسْــــــــــوَة ٌ                      مما جيرُ مثل الآُتن ِالنَّعِـــــــــــرات

لَعَمْرِي لقد جَرَّبْتُکُمْ فَوَجَدْتُکُـــمْ                      قِبَاحَ الوُجُــــــــــــوهِ سَيِّئي العَذِرَاتِ

وجدتکمُ لم تجبُروا عظم معــــرمٍ                      و لاتنحرون النّيب في الجحـراتِ

فإن يصطنعني الله لا أصطنعکـــمُ                    و لا أوتکمْ مالي على العثــراتِ

عطاءُ إلهي إذ بخلتـــــــم بمالکـــــــم                     مهاريسُ ترعى عازب القَفَراتِ

مهاريسُ يروي رسلُها ضيفَ أهلها                    إذا النَّارُ أبدَتْ أَوْجُهَ الخَفِـــرَاتِ

عِظَامُ مَقِيل الهَـــــــــــامِ غُلْبٌ رِقَابُها                     يُبَاکِرْنَ بَرْدَ الماءِ في السَّبَــرات

يزيلُ القتاد جدبها عن أصولـــــــه                      إذا ما عَدَتْ مَقْرُرَة ً خَصــــــرَاتِ

تقول د/ بان حميد فرحان الراوي في کتابها(الحطيئة في معيار النقد قديماً وحديثاً ) : " فقد التزم الراء في جميع أبياته مثل حرف الروي، وهي غير لازمة فيها . ويبدو أنه عمد لذلک لإثبات وجوده ،وبيان قدراته أمام قومه الذين لم يحفلوا به حباً واحتراماً، کما کانت قبائل العرب تحفل بالشعراء من أبنائها وتتفاخر بهم."[12]

لکن هناک فرق بين صنيع الحطيئة وصنيع أبي العلاء ،إذ الجديد في صنيع أبي العلاء أن أفرد لها ديواناً  نظمه في مرحلة العزلة " وفق تخطيط هندسي دقيق رسمه في ذهنه وهو يبدأ حياته الجديدة في عزلته،والتزامه على امتداد هذه الحياة دون أن يفکر في تغييره أو تطويره، أو أن يستبدل به مذهبا آخر،لسبب بسيط وهو أنه کان مقتنعاً به،مطمئناً إليه؛لأنه انعکاس صادق لحياته التي التزمها في صراحة عنيفة مقتنعا بها،مطمئنا إليها،في أعماق سجونه الثلاثة. وأيضاً لأنه تراءى له المجال الذي يستطيع أن يظهر فيه مهاراته اللغوية وقدراته العروضية وثقافاته الأدبية
والعقلية المتعددة"[13]

وفي اللزوميات تکلف أبو العلاء ثلاث کلف حيث يقول: "وقد تکلفت في هذا التأليف ثلاث کلف،الأولى:أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية: أن يجيء رويه بالحرکات الثلاث وبالسکون بعد ذلک، والثالثة: أنه لزم مع کل رويّ فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلک من الحروف"[14]

إن أساس التفکير الفلسفي لأبي العلاء ينطلق من عدة أمور هي: حياته الشخصية ، تشاؤمه، زهده، ثقافته ، فأبو العلاء لم  يستطع  أن يهتدي إلى  نظرية أو منهج کالفلاسفة في کثير من المسائل والمشکلات فشک واتسع عليه الشک، وهذا ظاهر في لزومياته حيث تدور اللزوميات حول فلسفة  أبي العلاء في الحياة الإنسانية وموقف الإنسان منها ومصيره بعدها. فأبو العلاء يؤمن بما يصل إليه  الحس ويدرک بالعقل ، أما ما وراء ذلک مما لا يصل إليه العقل فهو مجال للشک والحدس ، حيث يتحدث في لزومياته  عن مجتمعه وعلماء الدين والسياسة  ومصير الإنسان بعد الموت والروح  واليوم الآخر وغيرها ، ويعالج هذه الموضوعات معالجة  تکشف أحياناً عن يقين صادق ، وأحياناً عن حيرة وشک ، ففلسفة أبي العلاء قائمة على الشک في کل شيء إلا الله والعقل  فهو القائل 
في العقل [15]:

کَذَبَ الظَنّ ُلا إِمام َسِوى العَقلِ                              مُشيراً في صُبحِــــــــــهِ وَالمَســـــــــــاءِ

وهو القائل في  الشک[16]:

أَمّا اليَقينُ فَــــــــــلا يَقينَ وَإِنَّمـــــــا                               َقصى اِجتِهادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا

وقد وزع الدکتور طه حسين في کتابه (تجديد ذکرى أبي العلاء) موضوع فلسفته  على أربعة اتجاهات : فلسفة طبيعية، وفلسفة رياضية، وفلسفة إلهية، وفلسفة عملية[17]. کما يرى أن مصادر الفلسفة العلائية في اللزوميات مختلفة أهمها: الحياة نفسها، ومنها الفلسفة اليونانية، الفلسفة الهندية، الفلسفة الفارسية، وکتب الدين على اختلافه، ومن هنا تکون المزاج الفلسفي العلائي[18].

وأصول التفکير الفلسفي العلائي هي: زهده، تشاؤم واسع، العقل، صلة الإنسان بربه ومدى حريته إزاء ما سجله القضاء عليه في ألواح الغد، القول بحدوث العالم وما يتصل به من المادة والزمان والکواکب، الإيمان بالله وملائکته وکتبه ورسله واليوم الآخر[19]، حيث  عاش أبو العلاء مطبقاً فلسفته على أسلوب حياته  وشعره ، وهي فلسفة تتصل بحالته النفسية، فلسفة يسودها التشاؤم واليأس من کل شيء في الحياة، واختلفت نظرة أبي العلاء إلى الحياة عن نظرة غيره  کأبي العتاهية، فزهد أبي العتاهية في الحياة يختلف عن زهد المعري الذي يصح أن نطلق عليه زهداً فلسفياً،خاصة أن الفلسفة التي نسبت إليه کان أساسها أنه کان نباتياً کالفلاسفة الهنود ، فقد کان أبو العلاء واضحاً صريحاً في " الکشف عما في مکنون نفسه من آراء، سواء ذلک فيما يتصل بالناس والجماعات ، أو ما يتصل بالدين والمعتقدات، وسواء أکان ذلک عن رضا أو سخط، أو عن يقين أو شک، إذ لا شيء عنده فوق النقد، ولو کان ذلک في الدين، وما شرع الله من شرائع، وما قضى سبحانه من أحکام"[20].

ومن خلال الأسباب  التي أدت إلى عزلته وأصول فلسفته  أرى أن أبا العلاء استطاع   أن يطوع الشعر للفلسفة في ديوان (اللزوميات) باعتباره شاعراً لا فيلسوفاً ، فاللزوميات قائمة على الفلسفة شکلاً ومضموناً ، شکلاً من حيث لزوم ما لا يلزم ، ومضموناً من حيث الموضوعات التي تضمنتها اللزوميات ، فلم يکتف المعري بإلزام نفسه اللوازم الشکلية فقط، فاللزوميات عنده تنطلق من تعقيدات خارجية وتعقيدات داخلية، والتعقيدات الداخلية تنحصر في ثلاث لوازم هي: اللوازم اللغوية، واللوازم الثقافية، واللوازم البديعية. وقد دفعته اللوازم الشکلية إلى البحث عن الألفاظ الغريبة  ليحقق ما يريد ، ودفعته ثقافته العربية والأجنبية إلى توظيفها في لزومياته  لتصوير ما يريد عن طريقها، أما اللوازم البديعية فهي ظاهرة في لزومياته حيث التلاعب بالألفاظ  عن طريق الطباق والجناس، ومن أمثلة لزومياته في الراء المضمومة مع الدال والتي يظهر فيها استخدامه لمصطلحات النحو والصرف وفيها يفسر الصلة بين الأصول والفروع قوله [21]:

    حَوَتنا شُــــــــــــــــــــــرورٌ لا صَلاحَ لِمِثلِهـــــــــــا           فَإِن شَذَّ مِنّا صالِحٌ فَهوَ نـــــــــــــــادِرُ

     وَما فَسَدَت أَخلاقُنــــــــــــــا بِاِختِيارِنـــــــــــــــا           وَلَکِن بِأَمـــــــرٍ سَبَّبَتهُ المَقــــــــــــــــادِرُ

     وَفي الأَصلِ غِشٌّ وَالفُـــــــــــــروعُ تَوابِـــــــــــــعٌ           وَکَيفَ وَفاءُ النَجلِ وَالأَبُ غـــــادِرُ

     إِذا اِعتَلَتِ الأَفعالُ جــــــــــاءَت عَليلَـــــــــــــــةً            کَحالاتِها أَسماؤُها وَالمَصــــــــــادِرُ

     فَقُل لِلغُرابِ الجَونِ إِن کانَ سامِعـــــــــــاً            أَأَنتَ عَلى تَغيِيرِ لَونِکَ قــــــــــــادِرُ

     سَماحُکَ مَجهولٌ وَنَحُلُکَ واضِــــــــــــــحٌ            وَمَجدُکَ ضاويٌّ وَجِسمُکَ حـادِرُ

     بَني العَصرِ إِن کانَت طُوالاً شُخوصُکُم            فَإِنَّکُم في المَکرُمـــــــــــاتِ حَيــــــــــادِرُ

     وَمِن قَبلُ نادى الوَکرُ أَينَ اِبنُ أَجــــــــدَلٍ           أَواني وَقالَ الغابُ أَينَ الخَــــــــوادِرُ

     وَفي کُــــــــــــــــــــلِّ أَرضٍ لِلمَنِيَّةِ غائِــــــــــــــلٌ           عَلَيهِ يَمينٌ أَنَّـــــــــــــــــــهُ لا يُغـــــــــادِرُ

     فَــــــــــــــــــوادٍ بِـــــــــهِ ظَبيٌ وَلَيسَ لِنَفسِــــــــهِ           فَوادٍ وَتَردى في ذُراها الفَـــــــــــــوادِرُ

وقوله  في التاء المکسورة مع الواو المشدَّدة الذي  يظهر فيه استخدامه المعقد للجناس [22]:

   عَذيري مِنَ الدُنيا عَرَتني بِظُلمِها                       َتَمنَحَني قُوَّتي لِتَأخُذَ قُوَّتـــــــــــي

   وَجَدتُ بِها ديني دَنِيّاً فَضَرَّنــــــــــــي                         وَأَضلَلتُ مِنها في مُـــروتٍ مُرُوَّتي

  أَخوتُ کَما خاتَت عُقابٌ لَو اِنَّنــي                         قَدَرتُ عَلى أَمـــــــــــــرٍ فَعُدِّ أُخُوَّتي

  وَأَصبَحتُ في تيهِ الحَياةِ مُنادِيـــــــــاً                         بِأَرفَعَ صَوتي أَينَ أَطلُبُ صُوَّتـــي

  وَما زالَ حُوتي راصِدي وَهوَ آخِذي                        فَما لِمَتابي لَيسَ يَغسِلُ حُوَّتـــي

  رَآنِيَ رَبُّ النـــــــــــــــاسِ فيهــا مُتابِعاً                          هَوايَ فَوَيحي يَومَ أَسکُنُ هُوَّتــــي

  وَما بَرِحَت لــــــــي أَلــــــــوَّةٌ حَرَجِيَّةٌ                           تُصَيِّرُ مِن رَطبِ العِضاهِ أَلُوَّتــــي

  أَبوَتُکَ يا إِثمي وَمَن لـــــي بِأَنَّني                           أَتَيتُکَ فَاِشکُر لا شَکَـــرتَ أُبُوَّتي

و قوله في الهمزة المکسورة مع الميم [23]:

القلبُ کالماءِ، والأهــــــــــــــــــــــــــــواءُ طافيةٌ

عليه، مثلَ حَبابِ الماءِ في المــــــــــــــــاءِ

منه تنمّت ويأتـــــــــــــــــــــــــــي ما يغيّــــــــــرها،

فيُخْلِقُ العَهدَ من هندٍ وأسمــــــــــاءِ

والقولُ کالخلقِ، من سَيْءٍ ومن حسَنٍ،

والناسُ کالدّهرِ، من نور وظَلماءِ

يُقالُ: إنّ زمانـــــــــاً يَستقِيدُ لهـــــــــــــم،

حتى يُبَدِّلَ من بُــــــــــــــؤسٍ بِنَعمــــــــــــــــاءِ

ويوجدُ الصقرُ في الدّرماء، معتقداً

رأيَ امرىء القيس في عمرو بن درماءِ

ولستُ أحسِبُ هذا کائناً أبـــــــــــــــداً،

فابغِ الوُرودَ لنفسٍ ذاتِ أظمــــــــــــــــــــــــاءِ

وقوله[24]:

سأخرج بالکراهة، من زمانـــــي                  وفي کشحي، من يده، قطاع
وما زال البقاء يرث حبلـــــــــــي،                   إلى أن حان، للمرس، انقطاع
لبيب القوم تألفه الرزايــــــــــــــا،                   ويأمر بالرشاد، فلا يطــــــــــــاع
فلا تأمل، من الدنيا، صلاحا،                  فذاک هو الذي لا يستطـــــاع

وقوله أيضاً في التاءِ المضمومة مع الباء[25]:

أَرى الأَشياءَ لَيس َلَها ثَبـــــــــــــــــاتُ                             وَما أَجسادُنـــــــــــــا إِلّا نَبــــــــــاتُ

بِإِذنِ اللَه ِتَفتَـــــــــــــرِق ُالبَرايــــــــــــــا                              لِطيَّتِها وَتَجتَمِعُ الثُبـــــــــــــــاتُ

أَجَلَّت سَبتَها أَشيــــــــــــــــاع ُموسى                               أَسَبتُ القَطع ِذاکَ أَم السُباتُ

سألت عن البواکر أين أضحت،                              وعن أهل التروح أين باتـــــــــوا
وهل أرواح هذا الخلــــــــــــــــــــــق إلا                               عواري المقادر، لا الهبـــــــــــات؟
تبغض ساعنا أبدا إلينــــــــــــــــــــــــا،                                وهن إلى النفوس محببـــــات
جياد ما يزال لهــــــــــــــــــــــا خبيب،                               قوارب بالأنيس مقربـــــــــــــات
ومن يحمى ونسوة آل کســــرى                                وقوف بالعراء، مسلبــــــــــــات؟
وما يدري الفتى، والظن جهل،                                وأقضية المليک مغيبـــــــــــات
لعل بنات نعــــــــــش والثريـــــــــــــــــا                                 وشرقة، للردى، متأهبــــــــــات

إن فلسفة أبي العلاء، وإن لم تکن فلسفة فيلسوف بمعناها الحقيقي، إلا أنها تعد محاولة جديدة لوضع الشعر في هذا القالب الفلسفي الجديد ، وتناول موضوعات تختلف عن موضوعات الشعر المطروقة في عصره ،ومناسبة هذا الأسلوب لما التزمه في حياته وتطبيقه على شعره ، فقد نظر إلى ما يشغل فکره بنظرة فلسفية خاصة به تختلف عن الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية التي اطلع عليها ،   وبهذا حول الشعر إلى بناء فلسفي تحولت قصائده معه إلى مجموعة من
النصوص الفلسفية.                   

ومن هنا يعد صنيع المعري في لزومياته عملاً جديداً  يتصل بحالته النفسية التي أرادت إثبات مکانتها  في عصره من خلال قدرته اللغوية وثقافته الفلسفية؛ وهذا ما أکده کثير من الباحثين ومنهم:د/شوقي ضيف حيث وصف اللزوميات :"بأنها من طراز جديد تتضمن نقداً للحياة الاجتماعية مع دعوة واسعة إلى الزهد والتقشف ورفض الدنيا، ويسوده في ذلک کله تشاؤم واسع، فالحياة کلها الآم ونصب، وکان الشعراء قبل أبي العلاء يعنون بهذا الجانب، وخاصة أبا العتاهية و المتنبي"[26] ويضيف د/ شوقي ضيف  قوله عن فلسفة أبي العلاء : "لم يکن فيلسوفاً بالمعنى الدقيق لهذه الکلمة ،وآية ذلک أنه لم يترک نظرية فلسفية معللة أو موضحة ،وکيف له بصنع نظريات؟ إنه لم يکن يفکر التفکير الفلسفي الذي يقوم على صنع الکليات، وإنما کان يفکر تفکيراً أدبياً يقوم على تشاؤم وسخط، وهو يعرض هذا التفکير في آراء متفرقة وأفکار مفککة، لا يطرد لها نظام ولا سياق فکري متماسک"[27]

کما يرى الأب يوحنا قمير في کتابه ( المعري في لزومياته) بأن اللزوميات "فلسفة لم تقصد لذاتها، وإنما هي حالات نفسية انتابت صاحبها، فکونت فلسفة اصطبغت بالشعر، وکثرت فيها المراجعات ،وفقد التأليف ،ويرى أننا نمسح فکرة المعري  إذا حللنا اللزوميات ککتاب فلسفي عادي ...لأنها قبل کل شيء صدى روح فکرت  کثيراً، وشعرت کثيراً، وشقيت کثيراً. "[28]

ويذکر د/ عفيف عبد الرحمن  في کتابه (ظاهرة التشاؤم)  رأيه فيقول : "ونحن نميل إلى أن اللزوميات نظمها الشاعر ليرد على تحدي العالم له آنذاک ،وليثبت مقدرة لغوية وأدبية وعروضية وفلسفية، وليجبرهم على الاعتراف به؛ فاللزوميات مرآة صادقة وسجل واضح لحياته ونفسه"[29].  

وذهب  د/ علي کنجيان  في کتابه (مصادر ثقافة أبي العلاء) إلى رأي آخر في لزوميات المعري  حيث يرى  أنه " نظم  هذا الديوان في عهد العزلة بعد رجوعه من بغداد حيث کان قد انتهى من الدرس والبحث وصارت لديه ذخيرة لغوية وأدبية واسعة، فنظر أبو العلاء ورأى نفسه بين الألفاظ والآراء والمعاني التي لا تکاد تحصى، ثم نظر فوجد أوقات فراغ طويلة لا يمکن احتمالها ولا يمکن الصبر عليها، فاستعان بهذه الألفاظ وتلک المعاني على قطع هذا الفراغ الطويل"[30]

ويختلف عنهم الدکتور يوسف خليف إذ يرى أن أبا العلاء المعري قد بنى لزومياته "بناء عقلياً  خالصاً ، واستطاع أن يتحول به إلى ما يشبه أن يکون کتاباً في الفلسفة خاضعاً لمنهج عقلي دقيق سجل فيه صاحبه آراءه الفلسفية في شکل نظرية متکاملة".[31]

کذلک يختلف الدکتور طه حسين في تفسيره للزوميات  حيث  يرى أن أبا العلاء لم يرد " أن يظهر في کتاب اللزوميات ،مقدرته اللغوية وبراعته في قرض الشعر ،کما ظن طائفة من الناس، وإنما سلک هذا المسلک فيما نعتقد، ليکون أدعى إلى إيثار الغريب والاستکثار منه، حتى تخفى أغراض الکتاب على کثير من الناس، لم يکن يحب أن يظهروا عليها. وهذا فيما نرى علة حبه للرمز والإيماء، وإيثارالألفاظ الجافية، والمعاني الغريبة"[32]

       وأخيراً فقد أثرت لزوميات المعري في الشعراء بعده وامتد تأثيرها إلى العصر الحديث، وإن لم تکن اللزوميات کثيرة في شعرهم  لکن نفراً منهم خصوها بعنايتهم ، فقد ذکر د/ عبد الله بن سليم الرشيد في بحث له بعنوان (اللزوميات في الشعر العربي الحديث، الرؤية والتشکيل الفني)[33] أن اللزوميات لم تکن کثيرة عند شعراء العصر الحديث ،ولکن نفراً منهم خصوها بعنايتهم ،فأصدروا دواوين لزومية على طريقة المعري،وتبرز آثار المعري الفکرية في هذا النتاج من حيث الميل إلى التأمل وإيراد الحکم ونحو ذلک،على أنهم خرجوا عن الإطار الذي حبس المعري نفسه فيه، وتعد  لزوميات الشعر الحديث ظاهرة من ظواهر الحنين إلى النمط العربي القديم،وإيثاراً لعمود الشعر،ونوعاً من الانتصار للفصحى.  لقدکان التفات بعض الشعراءإلى هذاالفن في العصر الحديث ثمرة لأسباب عدة، فمنهم من کان يلزم ما لا يلزم إتباعا ًللقدماء الذين کانوا يقصدون الإبانة عن الاقتدار  والتوسع وفسحة مجال الفکر ،ولعل أبرز هؤلاء محمود سامي البارودي الذي کان حريصاً على أن يظهر مقدرته وتمکنه من صناعته،وفيضان قريحته،وإحاطته بکثير من غريب اللغة. والشعراء الأکثر تأثراً بالمعري أربعة، هم عبدالرحيم محمود، والثاني: أحمد مخيمر، والثالث :عبدالعزيز السعدني، والرابع: أحمد الشامي فللأول اثنتان وعشرون لزومية أدرجت معاً تحت عنوان(أفکار في لزوم مالا يلزم(،وللثاني لزوميات سماها(لزوميات مخيمر) أهدى قسمها الأول (الحياة والوجود) إلى روح أبي العلاء، أما الثالث: عبدالعزيز السعدني فله دويوين سماه لزوميات جديدة ، أما أحمد الشامي فله لزوميات کثيرة تتبع فيها لزوميات المعري قطعة قطعة.

ومن هنا  تحولت تجربة أبي العلاء إلى محاولة ناجحة وتجريب کتب له النجاح وإن لم يتخذ شکل الفن المستقل؛ لکنه إبداع استطاع من خلاله أن يثبت مقدرته اللغوية والثقافية، وأن ينتج شعراً علائياً مميزاً حيث جعل الجميع يشغل بدراسة هذا النوع من الشعر.

وبهذا يمکن  القول:إن المعري  بتفکيره الفلسفي في لزومياته  نجح  في تطويع الشعر للفلسفة بأسلوب شاعر يملک عوامل شخصية و قدرة لغوية وثقافة متنوعة ،  وظفها  جميعاً في معالجة تلک الأفکار  والتساؤلات  التي استقرت في نفسه   وعقله ، ونجح في   معالجتها  معالجة  أقرب إلى الأسلوب الفلسفي  منه إلى أسلوب فيلسوف حقيقي ، فکان أن أخرج ديوانه بحلة جديدة   تعکس تجربته  في إخراج مثل هذا النوع من الدواوين .

ومن أبرز الملاحظات والنتائج التي خرجنا بها من هذا البحث ما يلي:

  1. انعکاس الحياة العباسية الجديدة على إنتاج الشعراء العباسيين، وخاصة توظيف الشعراء العباسيين للعلوم الجديدة  في شعرهم کالفلسفة والمنطق.
  2. تنوع أساليب الشعراء العباسيين نتيجة توظيفهم للفلسفة في شعرهم کلٌّ بحسب
    فکره  وثقافته.
  3. التفکير الفلسفي لأبي العلاء المعري في لزومياته کان نتيجة عوامل تشکل بعضها مع بعض مکونة  لديه  القدرة   الشعرية على إنتاج مثل هذا الديوان .
  4. لزوميات المعري لم تکن  صدى لنفسيته وثقافته  فقط،  بل کان الأساس  الأول لها هو: تبني أفکار فلسفية نشأت  من  الأسباب التي أدت  به إلى  العزلة والزهد والتشاؤم     .
  5. توظيف الفلسفة في الشعر  ليس جديد أبي العلاء، لکن  الجديد هو  إفراد ديوان لذلک ،والتزامه بلوازم داخلية وخارجية ، وطريقة توظيفه لما يتصل بتشاؤمه وشکه وأفکاره الفلسفية.
  6. لا نستطيع أن نطلق على المعري فيلسوفاً، لکن يمکن جعله  أول شاعر يتبنى أفکاراً فلسفية يعرضها في قالب شعري يخلو من  عناصر  الشعر  ، وهو  بهذا العمل الشعري استطاع أن يطوع الشعر للفلسفة  في لزومياته و يوظف الفلسفة بشکل يختلف عن سابقيه من الشعراء، فالتجربة الشعرية لأبي العلاء في لزومياته تعد تجربة جديدة في الشعري العربي لم يسبقه إليها أحد، وکذلک تسمية دواوينه.

                                                                                             والله ولي التوفيق .

 



[1]جاء في المعجم الوسيط في مادة الفلسفة : دراسة المبادئ الأولى وتفسير المعرفة تفسيراً عقلياً. وکانت تشمل العلوم جميعاً، واقتصرت في هذا العصر على المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة. والفيلسوف :العالم الباحث في فروع الفلسفة ص733

[2]جاء في المعجم الوسيط  المنطق: الکلام .وفي التنزيل العزيز(علمنا منطق الطير).وعلم يعصم الذهن من الخطأ في الفکر. ويقال فلان منطقي: عالم بالمنطق، أو يفکر تفکيراً مستقيماً ص971

[3]ينظر  ترجمته: معجم الأدباء(1/555) تاريخ بغداد (4/340)،وفيات الأعيان (1/114)،الأعلام (1/157)، نزهة الألباب في طبقات الأدباء ص208

[4]تجليات الإبداع الأدبي، دراسات في العصر العباسي الثاني د/محمود علي عبد المعطي  ص254، دار النشر الدولي ط1 (1428_2007م)

[5]أبو العلاء وما إليه جمعه ورصفه عبد العزيز الميمني ص 128 دار الکتب العلمية ط1 (2003/ 1424)

[6]نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الانباري ص208

[7]اللزوميات لأبي العلاء المعري شرح نديم عدي ص272 دار طلاس (ط2/1988) 

[8]فصول في الشعر ونقده د/ شوقي ضيف ص111،دار المعارف ط3

[9]اللزوميات في الشعر العربي الحديث الرؤية والتشکيل الفني د/عبد الله بن سليم الرشيد مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية  ص391 ج19،ع41،جمادي الآخرة 1428هـ

[10]ديوان کثير عزة شرح د/إحسان عباس ص27 دار الثقافة .

[11]ديوان الحطيئة شرح أبي سعيد السکري ص41، دار صادر بيروت (1387ـ 1967م) .

[12]الحطيئة في معيار النقد قديما وحديثا  د/بان حميد فرحان الراوي،دار دجلة ط1 (2007م) ص 143

[13]في الشعر العباسي نحو منهج جديد د/يوسف خليف، دار غريب ص222

[14]اللزوميات لأبي العلاء المعري شرح نديم عدي ص22 .

[15]اللزوميات ص 47

[16]اللزوميات ص 421

[17]ينظر تجديد ذکرى أبي العلاء د/طه حسين ص 264 ط3 مطبعة المعارف (1356/1937).

[18]ينظر  المرجع السابق ص255

[19]فصول في الشعر ونقده  د/ شوقي ضيف ص113

[20]رهين المحبسين أبو العلاء المعري بين الإيمان والإلحاد عبد الکريم الخطيب  ص70

[21]اللزوميات (2/561)

[22]اللزوميات (ج1/269)

[23]اللزوميات ص 48

[24]اللزوميات ص476

[25]اللزوميات ص 124

[26]الفن ومذاهبه د/شوقي ضيف  ص381

[27]المرجع السابق  ص394

[28]ظاهرة التشاؤم  في الشعر العربي من أبي العتاهية إلى أبي العلاء د/عفيف عبد الرحمن ص 429، دار العلوم (1403ـ1983م)

[29]ظاهرة التشاؤم  في الشعر العربي من أبي العتاهية إلى أبي العلاء د/عفيف عبد الرحمن ص 428

[30]مصادر ثقافة أبي العلاء  من خلال ديوان لزوم ما لا يلزم د/على کنجيان ص 51، الدار الثقافية .

[31]في الشعر العباسي د/يوسف خليف ص175

[32]تجديد ذکرى أبي العلاء د/طه حسين ص218 .

[33]ينظر اللزوميات في الشعر العربي الحديث الرؤية والتشکيل الفني ص 392 وما بعدها .

  • ثبت المصادر والمراجع

    • أبو العلاء وما إليه جمعه ورصفه عبد العزيز الميمني دار الکتب العلمية ط1 (2003/ 1424)
    • الأعلام خير الدين الزر کلي ،دار العلم للملايين ط5(1984).
    • الحطيئة في معيار النقد قديما وحديثا  د/بان حميد فرحان الراوي،دار دجلة ط1 (2007م)
    • الفن ومذاهبه د/شوقي ضيف  ،دار المعارف.
    • المعجم الوسيط إبراهيم أنيس ورفاقه .ط2  .
    • اللزوميات لأبي العلاء المعري شرح نديم عدي (ط2/1988) دار طلاس .
    • تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ،دار الکتاب العربي.
    • تجديد ذکرى أبي العلاء د/طه حسين ط3 (1356/1937) مطبعة المعارف.
    • تجليات الإبداع الأدبي دراسات في العصر العباسي الثاني ، د/محمود علي عبد المعطي ،دار النشر الدولي ط1(1428ـ2007م).
    • ديوان الحطيئة شرح أبي سعيد السکري، دار صادر بيروت (1387ـ 1967م)
    • ديوان کثير عزة ،شرح د/إحسان عباس ،دار الثقافة.
    • رهين المحبسين أبو العلاء المعري بين الإيمان والإلحاد عبد الکريم الخطيب ، دار اللواء ط1(1400 /1980).
    • ظاهرة التشاؤم في الشعر العربي من أبي العتاهية إلى أبي العلاء  ، د/عفيف عبد الرحمن، دار العلوم (1403ـ1983م)
    • فصول في الشعر ونقده د/شوقي ضيف ،دار المعارف ط3 .
    • في الشعر العباسي نحو منهج جديد د/يوسف خليف، دار غريب .
    • مصادر ثقافي أبي العلاء المعري من خلال ديوان لزوم ما لايلزم ، د/ علي کنجيان  خناري ، الدار الثقافية.
    • معجم الأدباء ياقوت الحموي تحقيق عمر الطباع مؤسسة المعارف ط1(1999)
    • نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الانباري.
    • وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان تحقيق إحسان عباس دار الثقافة.
    • الدوريات: اللزوميات في الشعر العربي الحديث الرؤية والتشکيل الفني ، د/عبد الله بن سليم الرشيد، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية ج19،ع41،جماد الثاني 1428هـ.